"أظنها طلقات الغدرِ حين هوت تكاد لو أبصرتْ عينيك تعتذر، قُتِلتَ؟ لا لم تمتْ لكنهم كذباً، توهَّموا وأماتَ الغدرُ من غدروا"، من أصدق العبارات وصفاً لحادثة الاغتيال بقلم الشاعر شوقي بزيع. هذه الرصاصات حتماً كانت ستعتذر لو أدركت أنَّها تخترق جسدَ المُعلم. في الذكرى الـ 41 على الاغتيال نعود بالذاكرة لمن عايشوا أيام النضال، نسألهم عن رفيق الدرب، نشعر من نبرة صوتهم وعباراتهم وكأنَّ صديق العُمر رحل لتوِّه.

إنسانيته تغلَّبت على كل ما تربَّى عليه

" #كمال_جنبلاط شخص استثنائي، سبقَ عصرهُ بفكره ورؤاه، وكان تقدُّمياً وطليعياً، وما نادى به يثبت أن خطابه يناسب كل زمان، وطروحاته وأفكاره لا تزال صالحة لليوم"، وفق الوزير السابق عباس خلف، رئيس رابطة أصدقاء كمال جنبلاط، الذي عاصره وكان نائب رئيس الحزب للشؤون الخارجية. يخبر في حديثه لـ"النهار" أنَّ "كمال جنبلاط شخص لا يُنسى، ومن عرفه من كثب تأثر بشخصيته وأخلاقه إلى أقصى الحدود. هو الذي ولِدَ وملعقة الذهب في فمه إلاَّ أنَّ إنسانيته تغلَّبت على كل ما تربَّى عليه. هو بطبيعته يعتبر أن كل نضال وجهد يجب أن يتوخى كرامة الإنسان وحقه بحياة حرّة كريمة. كلمة واحدة تصفه (authentique) أي حقيقي وشفّاف. ووصفه الكاتب المميز في علم السياسة موريس دوفرجيه في أحد كتبه، بأنَّه "آخر رجل دولة في العالم العربي". أما الراحل الملك السعودي فيصل آل سعود، الذي استقبله عام 1970، فوصفه بالمميز ذي التاُثير الفكري في العالم العربي، وطلب من شقيقه الراحل الأمير عبدالله بالحفاظ على صداقته ومتابعة التواصل معه. ورافقته في لقاءات متعددة مع رؤساء وملوك وزعماء من الشرق الأوسط و #أوروبا. وكان دوما شجاعاً في التعبير عن رأيه بصراحة ووضوح، وذا بديهة وسرعة خاطر لافتتين. وكان محطّ احترام وتقدير جميع الذين عرفوه".


أعرف متى سأموت

"عام 1976 سافرنا برفقته الى #مصر وليبيا والجزائر وفرنسا، بغية اقناع المسؤولين في تلك البلدان، بأن لا يسمحوا للقوات السورية بالهيمنة على قوة الردع العربية، التي ستتولَّى الأمن في لبنان. في طريقنا من #الجزائر العاصمة إلى وهران لمقابلة الرئيس هواري بومدين، في حضور وزير الخارجية عبد العزيز بو تفليقة (الرئيس الحالي) على متن طائرة الرئيس بومدين الصغيرة، واجهت الطائرة مطبات هوائية ما جعلها تهتز بقوة، شعرت بالقلق، وكنت أجلس قرب المعلّم كمال جنبلاط، فسألني لمَ أنت خائف؟ لا تهتمّ لن يحصل شيء، اطمئن، أنا أعرف متى سأموت. وأعطاني كتاباً لأقرأه" وفق ما يقول خلف.

يوم الاغتيال

عن تاريخ 16 آذار 1977 يسردُ خلف "قدمتُ إلى بيروت من القاهرة قبل 16 آذار 1977 بأسبوع، بعدما كنت مستقراً مع عائلتي في القاهرة، لمتابعة الاتصالات الخارجية للحركة الوطنية والحزب التقدمي الإشتراكي. وكان من المفترض أن ألتقي المعلم يوم 16 آذار في بيروت. قبل التوجه إلى اللقاء اتصلت بي زوجتي من القاهرة بعدما سمعت الخبر على إذاعة "بي بي سي" قائلةً "هل سمعتَ الخبر؟ لقد اغتالوا كمال جنبلاط!".

نسأله ماذا بقيَ من مبادىء اشتراكية كمال جنبلاط؟ يجيب: "المبادىء والأفكار موجودة، وميثاق الحزب التقدمي الإشتراكي وبرنامج الإصلاح السياسي للحركة الوطنية يطرحان حلولاً عملية وتقدمية لا تزال صالحة وملبية لمتطلبات التطور والتقدم لبناء دولة مدنية ديموقراطية علمانية، تؤمِّن التقدم الإجتماعي للمواطنين كافة".

 

 

شهيداً مشاركاً في كتابة التاريخ

"مثَّل كمال جنبلاط وجه لبنان العربي، الديموقراطي، المدني، حضوراً وسمعةً وصوتاً وصدى. قالوا عنه إنه صانع الرؤساء، وخصمُ الرؤساء"، بهذه العبارات يصف الصحافي عزت صافي كمال جنبلاط ويقول لـ"النهار": "كان يُخطىء لكنه لم يكُن يعتذر لأنه دائماً على يقين بأنه على حق، لأنَّه كان يدرك الحقيقة. فيقولها ببساطة الواثقين بها وكان يترك للزمن أن يؤكد للرأي العام صحة ما كان يرى ويتوقَّع ويحضر منه. ولكنْ بقدر ما كان الزمن صادقاً معه، كان ضدَّه. وكتبَ في افتتاحية العدد الأول من جريدة "الأنباء" في 16 آذار 1951 بعنوان "قبيل المعركة" أنه "على كل فردٍ منا أن يكون على أُهْبة أن يواجه القوة المادية وأن يصارع السلطان الغاشم وأن يرمي بماله ودمه وحياته وأولاده في حلبة الصراع". كان ذلك نداءه يوم 16 آذار 1951. ولبَّى هو نداءه ورمى بدمه وحياته في حلبة الصراع ضد السلطان الغاشم وكان ذلك يوم 16 آذار من العام 1977. السلطان الغاشم مضى إلى حسابه الأسود مع التاريخ، وكمال جنبلاط بقيَ شهيداً شاهداً ومشاركاً في كتابة التاريخ".


في مسيرة صافي الحزبية بقيادة الرئيس كمال جنبلاط، 4 أيام خُلِّدت كذكرى في ذهنه. "الأولى أداء القسم في 4 أيار 1949، الثانية 16 آذار 1951 عندما كتب كمال جنبلاط افتتاحية العدد الأول من جريدة الأنباء. الثالثة، يوم 18 آذار 1951 في مهرجان الحزب في الباروك وكان مقرراً إعلان لائحة "جبهة الإنقاذ" في معركة الانتخابات النيابية، لكنَّ المهرجان تحول كارثة بعد يومين، إذ افتعلت السلطة بعهد الرئيس اللبناني الأول بشارة الخوري صداماً مع الحشود الشعبية، فسقط 3 شهداء للحزب وشهيد من الدرك. في ذلك اليوم، وقف كمال جنبلاط على أحد السطوح المطلة على المهرجان وقال كلمته التي نزلت كالتاريخ في حياته: "اليوم تعمَّد حزبُنا بالدم". اليوم الرابع، كان 16 آذار 1977، كنت أعمل في دار الصياد في باريس بعدما أجبرتنا الحوادث في البلد على المغادرة. وكان مقرراً العودة إلى باريس عصر السادس عشر من آذار، الساعة الخامسة والنصف مساءً وصلت إلى باريس توجهت فوراً إلى المكتب، فوجدتُ وجه السكرتيرة شاحباً فسألتُها ما بها، قالت: "لقد اغتالوا كمال جنبلاط". شعوري لا يمكن وصفه حينها، تركت المكتب، وتوجهت إلى غرفتي واختليتُ بنفسي ودموعي حتى صباح اليوم التالي. هذه الأيام الأربعة من حياتي جزء من الأيام الخالدة في ذاكرتي من عُمر كمال جنبلاط ولبنان التي أذكرها لغاية يوم 16 آذار عام 2017".


41 عاماً على الرحيل ولا يزال كمال جنبلاط حاضراً، لم يمحُ الزمن اسمه، والتاريخ لا يزال شاهداً على نضالاته وأفكاره. اغتالوه في ذاك اليوم معتقدين أنَّ أزيز الرصاص سيعلو على صوت الحق، إلاَّ أنَّ أقوال المُعلِّم لا زال صداها يتردد حتماً في آذان المجرمين.