ليس في زماننا الحاضر فحسب توجد ضرورة طبيعية، وهي أن يكون لكل اجتماع بشري دولة تعتبر ممثلة لهذا المجتمع ومكوناته، ولكن هذه المسألة قائمة منذ بدايات تطور الإجتماع البشري، من طور المشاعية الأولى إلى طور التمدن ونشوء المجتمعات التي تحتاج إلى تنظيم شؤونها، ولكن الدولة أو السلطة التي كانت تنشأ في هذه المجتمعات القديمة كانت باستمرار سلطة تفرضها معادلة القهر والغلبة، ولكنها مع ذلك نقلت الإجتماع البشري من فوضاه ومشاعيته إلى اجتماع منظم، بغض النظر عن مسألة العدالة في حكم هذه المجتمعات. ومن وجهة نظر إسلامية فإن الشريعة الإسلامية أقرت بل أوجبت قيام مثل هذه الدولة لنظم شؤون المسلمين، ووضعت الأسس والضوابط لقيام سلطة عادلة تنظم شؤون المجتمع، وتحقق العدالة بين أفراده ومكوناته.

صحيح أن الإسلام لم يفرض شكلا محددا للدولة، وقد ترك للمسلمين مسألة اختيار شكل هذه الدولة وصورتها، على أن تكون عادلة، وأن تتضمن مؤسسات ترعى هذه العدالة، فكانت بعد وفاة الرسول(ص) الدولة التي اختارها المسلمون هي دولة الخلافة، ولما لم يكن هناك نص يحدد شكل الدولة و صورتها، كملكية أو دستورية أو جمهورية، فإن المسلمين اختاروا بما يسمى بدولة الخلافة، وقد فرضت سلطتها و سيادتها على دولة واسعة الأرجاء، تضم كامل المجتمع الإسلامي، واعتمدت في تنظيم و رعاية الشؤون العامة على تعيين الولاة في الأقطار الاسلامية الواسعة.

والذي نريد أن نلاحظه هنا أن موازين القوى التي نشأت فيها الدولة الإسلامية انتهت إلى حق إدارة هذه الدولة من قمة الهرم إلى قاعدته إلى أن تكون تحت سلطة مكون من مكونات المذاهب الإسلامية، و هو المكون السني، في الوقت الذي كان المكون الآخر – و هو التشيع – ابتدأ في تأسيس عقيدته على تبني الإمام علي بن ابي طالب(ع) بوصفه الخليفة الأحق بمركز الخلافة، أي برئاسة دولة المسلمين. و يجب أن نعترف أن الإجتماع الإسلامي شهد في أوقات مختلفة ومتعددة أشكالا من الصراع والحروب الساخنة كما الحروب الباردة في النزاع على أحقية كل من الطرفين السنة والشيعة للإمساك بشؤون الدولة.

من وجهة نظرنا فإن النهج الإسلامي الديني لأئمة الشيعة و لعلمائهم من بعدهم كان نهجا متشددا في التزام قواعد الإسلام وقيمه، وكان هذا التشدد يختلف مع ميل الخلفاء بعد عصر الخلافة الراشدة إلى اعتبار الخلافة أو الخليفة ذو سلطة مطلقة، وبالتالي فإنه يدير شؤون الدولة ويعين ولاتها وفقا لحساباته السياسية، مع ميل واضح – وأحيانا ميل فاضح – إلى أن الخليفة هو خليفة الله على الأرض، وأن ما يصدر عنه فهو يصدر عن الله تعالى، وكانت هذه السلطات المطلقة للخلفاء تمكنهم من حصر الخلافة – أي السلطة – بتوجهات مذهب محدد، كما تمكنهم من عزل الفريق الآخر الذي هو الشيعة، وفصلهم عن امتلاك صلاحيات ضمن هذه الدولة، الأمر الذي أدى إلى انكفاء الشيعة عموما – رغم ثوراتهم المتعددة – عن موقع السلطة من جهة، وذهابهم إلى موقع المعارضة التي تكاد تكون مستمرة عبر التاريخ الإسلامي كله، واستمر التاريخ الإسلامي – كما أشرت سابقا – يسير على نهج واحد في الشكل الذي اختير للدولة الإسلامية وصولا إلى آخر خلافة شهد العالم الإسلامي، وهي السلطنة العثمانية التي استمرت أكثر من أربعة قرون، وكانت تعتمد نهج الخلافة نفسه الذي شهدته المراحل السابقة ابتداء من الخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية، ثم العباسية، ثم تفكك الكيان السياسي للمسلمين، وصولا كما قلنا للدولة العثمانية التي أعادت السيطرة على هذه الكيانات المفككة.

وكان أتباع المذهب الشيعي – رغم كل هذا العزل الواضح – يعتبر نفسه جزءا من هذا الكيان، و لكنه توقف عن المطالبة بحقوقه السياسية بعد عجزه عن الوصول إلى هذه الحقوق، وانصرف قادة الشيعة و علمائها إلى حقول أخرى لا تقل أهمية عن الحقل السياسي، ولكنها لا توصل إلى أي شكل من أشكال السلطة إلا في أوقات نادرة، و في مساحات صغيرة من رقعة العالم الإسلامي، كدولة البويهيين مثلا، وفي كل الأحوال فإن هؤلاء العلماء أو القادة انصرفوا إلى تطبيق قواعد الشريعة التي يؤمنون بصحتها داخل مجتمعاتهم، وتوجهوا إلى إثراء العلوم الإسلامية، وإلى ميدان الفقه الذي مكنتهم السلطات من الإنصراف إليه ما دام لا يهدد البنية السياسية التي اعتبرت حقا حصريا للمذهب السني وللخليفة الذي يمثله.
وكما نعلم فإن سقوط آخر خليفة في التاريخ السياسي للمسلمين بسقوط الدولة العثمانية فإن منظومة الخلافة سقطت بأكملها، وبدأ تكوين كيانات سياسية جديدة، ذات طابع قومي وقطري، توزع فيه الكيان الإسلامي إلى دول وأقطار وممالك منفصلة، وهنا نلاحظ أنه بالرغم من زوال الخلافة فإن الحصيلة التاريخية التي تكونت في الإجتماع السني عموما من خلال ممارسة الحكم أكثر مت ألف سنة، جعل العقل السني أقدر باعتماده على هذه الحصيلة التي ذكرناها على تسلم أكثر السلطات في هذه الدول الحديثة و الأقطار المختلفة، وقد كان ابتعاد الشيعة عن مراكز السلطة طيلة هذه القرون عاملا أساسيا من عوامل عجزهم عن المشاركة الفعالة في هذه السلطات الجديدة، رغم أن هذه السلطات باتت بعيدة عن مفهوم الخلافة، وأشبه بمكونات الدول الأوروبية الحديثة!

وبالرغم من كون المرحلة التي تلت تفكك الكيان الإسلامي إلى دول وأقطار متفرقة، وبالرغم من اعتماد الشعار القومي أساسا لهذه الدول، إلا أن المخزون التاريخي مكن السنة من متابعة ممارسة الحكم، ولذلك يمكن القول أن الشيعة لم يتسلموا زمام سلطة حصرية إلا في عصرنا الحديث، من خلال قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي أعلنت أن مذهب الدولة هو مذهب التشيع، و رغم أهمية هذا الكيان الشيعي الأخير المتمثل بالدولة الإيرانية، فنحن لا نرى أن المسار المستقبلي لطبيعة السلطة في عالمنا الإسلامي سوف يتجه من جديد إلى قيام دول دينية أو مذهبية، ونرى أن كل المؤشرات تدل على أن الكيانات الإسلامية هي في طريقها ولو مع شيء من التعثر والصراع المذهبي إنما تتجه إلى ما نسميه بدولة المواطنة..
إن تاريخنا الإسلامي السياسي لا يشجع على العودة إلى استنساخ هذا التاريخ، وأن الإسلام بوسعه أن يتسع لأشكال سياسية متقدمة، خصوصا وأن نظام الخلافة الذي ساد في العصور الإسلامية لم يكن نظاما منزلا، وإنما كان اختيارا بشريا تاريخيا، وإني أرى أن الشيعة قد يكونون أقدر على ضرورة تفهم واستيعاب النقلة التاريخية من نظام خلافة إلى ما يشبه صورة الأنظمة الحديثة التي تسود في عالمنا المتقدم اليوم.

وعلى أساس هذا التصور والرؤية التي شرحناها فإننا لا نرى مانعا، بل نرى أن من الواجب، التوجه إلى نقلة نوعية باتجاه الدعوة إلى نظام علماني إسلامي، وهو ما سميناه بالعلمانية المؤمنة، التي لا تفصل الدين عن المجتمع، كما في بعض علمانيات الغرب، ولكنها بالضرورة يجب أن تفصل الدين المقدس عن الدولة، والدولة بوصفها نظاما وضعيا فهي غير مقدسة، وغير منزلة، وهي يجب أن تحمي الدين الإسلامي من سطوتها – أي سطوة الدولة – وتتسع في الوقت نفسه لكل المذاهب والأديان والأعراق التي تعيش في هذه الدولة.
ومثل هذا التصور أو الصيغة التي نطرحها فإننا بذلك نحمي الدين وقيمه وتعاليمه السامية، من كل أشكال الإستغلال. وإننا لا نعرف قيمة هذا الفصل إلا إذا أعدنا النظر في تاريخنا ورأينا إلى أي حد كانت ذريعة حماية الدين وسيلة للخلفاء والملوك لتحقيق أهدافهم السياسية، وكيف أنهم كانوا يفرضون على الشعوب الإسلامية سياساتهم بوصفهم ظل الله على الأرض، والناطقون باسم الحق الإلهي، الأمر الذي أساء وشوه تعاليم الدين وغاياته التي من أجلها فرضها الله على المسلمين وغيرهم.

 

 

المصدر: الشراع