قطع التلفزيون الإيراني البث المباشر للجنازة بمجرد بدء الهتافات التي ارتفعت بها حناجر مشيّعي رفسنجاني الذين طالبوا بإطلاق سراح زعيمي التيار الإصلاحي في البلاد؛ مير حسين موسوي، ومهدي كروبي. وأخيرا اضطر التلفزيون إلى وضع موسيقى حزينة على صور الجنازة بدلا من نقلها بالصوت والصورة خوفا من أي هتافات جديدة.

صحيح أن خامنئي، الذي أمّ المصلين على رفيق الدرب الراحل، لم يكرّم رفسنجاني بالدعاء المعروف “اللهم إنا لا نعرف منه إلا خيرا وأنت أعلم به”، وأنه قال عوضا عن ذلك “اللهم عفوك”. إلا أن مجرد اضطرار مرشد الثورة إلى الحضور، كان رضوخا للتيار الإصلاحي. لكن أين هو التيار الإصلاحي بالمعنى الذي نفهمه ويفهمه العالم، خارج حدود الجمهورية الثورية الإيرانية؟

ألم يحمل التيار الذي يعد رفسنجاني مرشده الروحي، رئيس الجمهورية الحالي روحاني، إلى سدة الرئاسة؟ ألم تواصل إيران اجتياحها ومشروعها التوسعي العدواني في العالم العربي رغم وجود روحاني والإصلاح والإصلاحيين؟

أنصار رفسنجاني لم يصدقوا أنه مات ميتة طبيعية. إذ بينما أعلنت السلطات الإيرانية وفاته إثر نوبة قلبية، ذكر موقع “آمد نيوز” الإصلاحي أن رفسنجاني اغتيل “بيولوجيا”، باستخدام سلاح كيميائي. حتى أن وزير الصحة الإيراني حسن قاضي زادة هاشمي قال إن الفريق الطبي الخاص برفسنجاني لم يكن برفقته عند تدهور صحته ونقله إلى المستشفى، وأنهم “وصلوا متأخرين بعد فوات الأوان”، بحسب تصريحاته لوكالة “إيسنا”.


رفيق النضال

لا شك أن وفاة رفسنجاني عكست درجة احتدام الصراع في إيران، فلم يستطع خامنئي ذاته ضبط أعصابه وهو يعلن في رسالته التي وزعتها وسائل الإعلام عشية وفاة من سماه بـ”رفيق النضال”. ولم تكد تمر بضع كلمات حتى قال خامنئي “رغم الخلافات التي لم تنجح أبدا في القضاء تماما على صداقتنا”.

نحن أمام مشهد سوريالي نوعا ما. فالمرشد الأعلى، ظلُّ الإمام الغائب على الأرض، الذي لا يمكن رفض ما يأمر به، يشكو إلى الملأ “خلافات” مع أحد أتباعه. ويصف بدقة أن القضاء على الصداقة لم يكن “تاما”. ذلك النضال المشترك بين الرجلين، والذي قارب الستين عاما، بدأ منذ زمن الشاه. حينها كان رفسنجاني واحدا من بين أبرز المعارضين للعرش البهلوي.

ولد رفسنجاني يوم 25 أغسطس من العام 1934، في قرية بهرمان، وهي من ضواحي مدينة رفسنجان بمحافظة كرمان جنوب شرقي إيران، في عائلة ثرية. حيث كان والده ميرزا علي الهاشمي يزرع الفستق ويتاجر فيه. سماه والده أكبر، وعُرف لاحقا بـ”علي أكبر”. درس في مدرسة دينية محلية، ثم غادر القرية الصغيرة في عمر الـ14 ليكمل تعليمه في قم.

وفاة رفسنجاني تبرز فيها درجة احتدام الصراع في إيران، فلم يستطع خامنئي ذاته مرشد الثورة ضبط أعصابه وهو يعلن في رسالته التي وزعتها وسائل الإعلام عشية وفاة من سماه بـ"رفيق النضال". ولم تكد تمر بضع كلمات حتى قال خامنئي "رغم الخلافات التي لم تنجح أبدا في القضاء تماما على صداقتنا"
وفي حوزتها تلقى العلوم الدينية المتقدمة على يد رجال دين شيعة كبار، مثل البروجردي والخميني والمرعشي النجفي والطباطبائي. ليتخرج نهاية الخمسينات من القرن الماضي برتبة “حجة الإسلام” وهو مستوى أقل من “آية الله” بدرجة واحدة. بدءا من العام 1961 أصبح رفسنجاني معارضا لنظام الشاه. فاعتقل السافاك أكثر من سبع مرات لتوليه قيادة المجموعات المؤيدة للخميني في إيران، وفي إحدى تلك المرات تم الاحتفاظ به في المعتقل قرابة ثلاث سنوات أواسط السبعينات من القرن الماضي.


رجل الغرب في طهران

بعد عودة الخميني وسقوط نظام الشاه. تقدم رفسنجاني خطوات إلى القيادة، فعيّن عضوا في مجلس الثورة. وأسس مع آخرين الحزب الجمهوري الإسلامي، كان قريبا جدا من الخميني، حتى أن معاصريهما يقولون إن رفسنجاني كان الوحيد القادر على أن يجعل الخميني يبتسم. بحكم ذلك القرب، تولى رفسنجاني رئاسة البرلمان الإيراني بين عامي 1980 و1989. أي طيلة الحرب العراقية الإيرانية التي لعب فيها دورا هاما للغاية. قبل أن يرتبط اسمه مباشرة بقرارات إعدام عشرات الآلاف من المعارضين الإيرانيين في العام 1988. ليعيّنه الخميني قائما بأعمال القائد العام للقوات المسلحة.

وهو المسؤول المباشر عن قبول إيران لقرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى ثمانية أعوام من الحرب مع العراق. وهو الذي سماه الخميني “كأس السمّ التي لا بدّ منها”. والأرجح أن من جرّعه إياها كان رفسنجاني ذاته بتنسيق مع حلفائه. إذ بعد عشر سنوات من اقتحام السفارة الأميركية في طهران لحظة انتصار الثورة الإيرانية، استيقظ العالم ليسمع من رفسنجاني أن تلك الخطوة كانت خطأً. كان رفسنجاني يقف خلف اتفاق السلاح مقابل الرهائن مع إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغن، الملف الذي عرف لاحقا بـ”إيران غيت”. وبناء على دوره ذاك، فقد اتخذ صقور النظام موقفا سلبيا منه. ومع الوقت أخذ المتشددون يطلقون عليه لقب “رجل الغرب”.


النووي بديلا عن الإمام

يعرف رفسنجاني في طهران بأنه صاحب فكرة “بناء القنبلة النووية كسلاح يستعاض به عن خسارة البلاد للخميني”. وبعد موت الخميني، كان دوره حاسما في اختيار خامنئي مرشدا. بينما تولى هو منصب رئاسة الجمهورية في دورتين من 1989 إلى 1997. وبقي منذ أن عيّنه الخميني في العام 1987 رئيسا لمجمع تشخصي مصلحة النظام حتى آخر لحظة في حياته.

تتهمه أطراف دولية ومحلية عديدة بأنه المسؤول عن اتخاذ قرارات اغتيال لشخصيات عديدة في المشهد الإيراني، أو عمليات تفجير في بعض البلدان، وهي مسؤولية تضامنية كما هو معلوم بحكم كونه رئيسا للجمهورية. في الأرجنتين توجه الحكومة والقضاء الاتهام لرفسنجاني بالتخطيط والإشراف على تنفيذ التفجير الذي وقع في بوينس آيرس في العام 1994 في كنيس آميا اليهودي، وأدَّى إلى مقتل 85 شخصا وإصابة المئات. ومع ذلك فإن ما يحسب لرفسنجاني أنه وخلال فترتيه الرئاسيتين، أعاد بناء إيران بعد الحرب الطويلة، وأدخل الشركات الأجنبية إلى البلاد معتمدا سياسة الانفتاح الاقتصادي. ولعب دورا بارزا في انتخاب محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية أمام المحافظ أكبر ناطق نوري عام 1997.

حينها شارك ناطق نوري في الانتخابات بوصفه الرئيس المقبل دون شك، فخامنئي قد اختاره لتولي هذا المنصب، ونشرت صحيفة “كيهان” المحافظة خبرا عنوانه أن المرشد يفضل ناطق نوري، لكن رفسنجاني رفض ذلك ودعا إلى انتخابات نزيهة، وقال في خطبة صلاة الجمعة في الأسبوع الأخير قبل إجراء الانتخابات “لن أسمح بأي تزوير في الانتخابات ومن يفوز بأغلبية الأصوات سيكون رئيسا للجمهورية”.


الثعلب الإيراني


النظام الإيراني نموذج لا يمكن أن يتشكل فيه تيار إصلاحي وآخر محافظ. فالكل تحت فكرة الولي الفقيه فهم محافظون. والأطراف مهما بدت واحتدمت بينها الخلافات، تبقى تدور في فلك الدولة التي يؤسس لها الإسلام السياسي
التحول الذي أراد له النظام الإيراني أن يبرز أمام المراقبين، كان في العام 2009 حين انتقد رفسنجاني قمع الاحتجاجات على نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها محمود أحمدي نجاد، الذي اتهم وقتها بتزوير الانتخابات. ليس موقف رفسنجاني هو المفاجئ بالنسبة إلى نظام الولي الفقيه. بل موقف الشارع الإيراني، الذي كان قد أخذ يضج ويكفر بممارسات الحرس الثوري. فلم تعد لعبة المشاعر الدينية والطقوس كفيلة بإخفاء الخلل. فإيران ليست دولة بأي حال من الأحوال، بل هي مجموعة من الأجهزة الأمنية والعسكرية والدينية تتناوب على التحكم في شؤون البلاد.

يعرف رفسنجاني هذا الأمر جيدا. لكنه لم يكن يحسب، وهو “الثعلب الإيراني” بأن الشعب المبرمج يمكن له أن يتمرد يوما. وعرف أيضا أن هذا الأمر سيشكل خطرا يتهدد النظام الذي بناه وحرص عليه من الانهيار. وهنا قرر أن يبتكر تعاملا مختلفا معه. بينما أصر خامنئي وفريقه الذي سمّي بالمتشدد على الاستمرار وفقا للخط السابق، دون أي تغيير.

أعلن رفسنجاني دعمه الصريح للمعارضة الإصلاحية وزعيميها مير حسين موسوي ومهدي كروبي. فاتخذ خامنئي قرارا بمنع رفسنجاني من إمامة صلاة الجمعة في طهران. وتم إقصاؤه عن مجلس خبراء القيادة، الذي يعين المرشد ويعزله. وتم إبعاد ابنه رفسنجاني الذي كان يتولى منصبا اقتصاديا كبيرا في الدولة، إنه محسن رفسنجاني مدير مترو الأنفاق في طهران. بعد ذلك اعتقلت ابنته فائزة رفسنجاني إثر مشاركتها في مظاهرات فبراير في العام 2011. وتم إغلاق مجلتها “المرأة”. لكن رفسنجاني بقي حتى آخر رمق يدعم حسن روحاني، ولم ييأس من المشاركة من جديد في صنع القرار، ففاز في انتخابات مجلس خبراء القيادة العام الماضي 2016.


الانفتاح الدامي على العرب

تذكر الصحف الرسمية السعودية اليوم رفسنجاني بعبارات من هذا النوع “مرت العلاقات السعودية الإيرانية بحالة من الدفء في عهد رفسنجاني، وكانت تربطه علاقة وطيدة مع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، فيما شهد البلدان توقيع اتفاقية أمنية في العام 2001”. دون أن تعرّج أي من تلك المنابر على أن تفجيرات الخبر في السعودية كانت قد وقعت في عهد رفسنجاني ذاته. يقال إن رفسنجاني كانت له وجهة نظر حول العلاقة مع السعودية. تلقي باللائمة على المتشددين في كلا البلدين، إيران والسعودية. ومع ظهور تنظيم داعش، قيل إن رفسنجاني صرّح بأن الاحتفال بمقتل عمر بن الخطاب وشتم الصحابة، أديا إلى نشوء داعش وتنظيم القاعدة.

بقيت مواقف رفسنجاني حذرة ومناورة حول دور إيران في سوريا. وقد نقلت عنه مصادر قوله “إن استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية ضد شعبه، إن ثبت، جريمة ولكن معاقبته بالحرب هي جريمة أيضا لأن المتضرر في كل ذلك هو الشعب”. مضيفا “إن على إيران ألاّ تراهن كثيرا على رئيس خاسر في سوريا”.

رفسنجاني لعب دور السياسي المتبدل ما بين العنف والدبلوماسية حيال جيرانه العرب وملفاتهم. لكن شهادة أبوالحسن بني صدر، الرئيس الإيراني الأسبق، عن الانقلاب الذي وقع ضده في أكثر من حوار أجري معه، علاوة على رأيه في رفسنجاني، يعكسان غير هذا. يقول بني صدر إن رفسنجاني “كان له أثر كبير في البلاد. وكان يدير شؤون الحرب بالتعاون الوثيق مع أحمد الخميني. ولأنه كان يدير شؤون هذه الحرب فقد كان رفسنجاني يخيفني، لأنه أراد مواصلة الحرب واحتلال البصرة، وباحتلالها يسقط صدام حسين، كان هذا مشروعه، مع أن كل قادة الجيش كانوا يعارضون ذلك ويقولون إن احتلال البصرة سيطيل أمد الرحب” .

بعد ذلك بسنوات، وفي مارس 1992 زار رفسنجاني جزيرة أبوموسى الإماراتية التي تحتلها إيران مع أختيها طنب الكبرى والصغرى. أصرّ حينها على أن يكون أول رئيس يزور تلك الجزر. واتخذ قرارات بدءا من تلك اللحظة اتسمت بالعنصرية والعدوانية. فقد منع المواطنين الإماراتيين من التجوّل في الجزر. وفرض عليهم قيودا على تواصلهم مع وطنهم، كما فرض على سفن الصيد أخذ تصريحات منها قبل مزاولة أي نشاط. وعززت إيران تواجدها العسكري في الجزر ونصبت على أرضها بطاريات صواريخ وبنت موانئ للزوارق الحربية وشيّدت مطارا عسكريا وشجّعت الإيرانيين على الاستيطان فيها.

كان رفسنجاني يقف خلف اتفاق السلاح مقابل الرهائن مع إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغن، الملف الذي عرف لاحقا بـ"إيران غيت". وبناء على دوره ذاك، فقد اتخذ صقور النظام موقفا سلبيا منه
وحتى يحسم الأمر قال رفسنجاني في العام 1994 “إنّ دولة الإمارات ستعبر بحرا من الدماء إذا ما أرادت السيطرة على الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى”. أيد رفسنجاني سياسة طهران في اليمن، وانتقد التحالف العربي بشدة، قائلا “للأسف فإن المسؤولين حديثي العهد في السعودية قد أخطأوا خطأ فادحا في حساباتهم وتحليلاتهم السياسية والعسكرية بشأن ظروف اليمن ودخلوا حربا مدمرة من دون دراسة ورويّة والأخذ بعين الاعتبار العواقب المشؤومة لإشعال شرارة الحرب في المنطقة وذلك في ظل تحالف هش وناقص”، وأضاف في جلسة لمجمع تشخيص مصلحة النظام في ربيع العام 2015، أن المقاومين (يقصد الحوثيين) سيقاتلون “حتى الموت بشكل متحد ومنسجم دفاعا عن وحدة أراضي بلدهم وعقائدهم وكرامتهم الدينية والوطنية”.

وهكذا نرى أنه مع إصلاحي من طراز رفسنجاني، يصبح الإصلاح مجرد تغييرات شكلية لا قيمة لها. أو لعبة كراسٍ موسيقية، يتبادل فيها المحافظون والإصلاحيون الأدوار لا أكثر. فهاهم من كانوا يهتفون “الموت لأميركا” وضعوا أيديهم بيد الأميركيين لاحتلال وتدمير العراق ووراثة حكمه. ويبدو أن مشيعي رفسنجاني أكثر تطرفا من المحافظين أنفسهم الذين قبلوا بدور لروسيا في سوريا. فهؤلاء المحسوبون كإصلاحيين يرفضون أي دور روسي في التخفيف من العنف الإيراني الشرس هناك. بل إنهم يهتفون في جنازة رمزهم رفسنجاني اليوم “الموت لروسيا” وسيفعلون الأمر ذاته كنسخة متجددة عن الذهنية ذاتها. مكررين تصدير الثورة بتأجيج النزعات الطائفية والعرقية من حول إيران.

بنيويا لا يمكن لنظام مثل النظام الإيراني أن يتشكل فيه تيار إصلاحي وآخر محافظ. فالكل تحت فكرة الولي الفقيه محافظون. والأطراف مهما بدت واحتدمت بينها الخلافات، تظل تدور في فلك الدولة التي يؤسس لها الإسلام السياسي، وهو أمر غير قابل للإصلاح، لأنه يربط القرار بالسماء بهذه الصورة أو تلك.

 

 

إبراهيم الجبين