الحرب الثالثة التي دارت وتدور في قطاع غزة أحكمت ربط هذه الأزمة والقضية الفلسطينية برمتها بسلسلة أزمات العالم العربي. لم تعد الهدنة رهن الطرفين المتصارعين في مسرح العمليات فقط. صارت رهن مصالح دول وقوى في المنطقة وخارجها، كما حال المواجهات الدائرة في كل من العراق وسورية واليمن وليبيا. لم يعد اللاعبون التقليديون يملكون وحدهم سلطة القرار. إنها النتيجة الطبيعية لما آل إليه النظام الإقليمي، ليس بسبب تداعيات «الربيع العربي» وما خلفه من اندثار حدود بين دول وقيام أخرى بين مكونات وجماعات وقوى دينية وعرقية وقبائلية، بل بسبب مرحلة مديدة من الخلل الذي راح يضرب هذا النظام منذ سقوط جدار برلين. ومنذ حروب الخليج الثلاث وما تلاها من آثار على المنظومة العربية. ومثلما تحولت جبهات القتال في اليمن والعراق وسورية ساحات صراع عربي - إيراني - تركي، رسخت المعركة الدائرة في القطاع الصراع العربي - العربي الدائر أصلاً في معظم مواقع القتال في بلاد الشام... وحتى في الشمال الأفريقي. ولا يحتاج ذلك إلى أدلة وشواهد لتوكيده.

 

 

وإذا كان ثمة أمل بهدنة مرحلية عشية عيد الفطر تريح أهل قطاع غزة، بفضل المساعي الديبلوماسية التي يبذلها أكثر من طرف إقليمي ودولي بين باريس والقاهرة، فإن هدنة دائمة ليست واردة في الأفق المنظور. كما هي التسويات المنشودة لكل الأزمات المشتعلة من طرابلس الغرب إلى بغداد، مروراً ببيروت ودمشق وصنعاء. كل الحلول مؤجلة ما دامت المحادثات لتسوية الملف النووي الإيراني ستستمر لأربعة أشهر جديدة. وما دام الصراع بين الغرب وروسيا مفتوحاً على مصراعيه في أوكرانيا ويلقي بظلاله في أقاليم أخرى على رأسها سورية. وما دامت السياسة الأميركية في سبات مديد. وما دامت قوى محلية باتت أرقاماً صعبة فرضت وستفرض حضورها في أي تسوية يمكن أن تتوافق عليها الدول الكبرى سواء في المنطقة أو خارجها. أسقطت هذه القوى الحدود بين العراق وسورية. وبين لبنان وسورية. وتجهد «الفرق الجهادية» إلى إسقاط الحدود من مصر إلى المغرب، خصوصاً بين الجزائر وتونس وليبيا وتكاد تحولها ساحة واحدة لصراع مفتوح.

 

 

لم تعد التسويات رهن الأطراف التقليدية المعروفة. التهدئة في العراق وسورية لن تكون وليدة تفاهم بين إيران والولايات المتحدة، كما كانت الحال منذ الغزو الأميركي لهذا البلد. لم يعد ممكناً تجاهل العناصر العربية والكردية والتركية ومصالحها. ولم يعد ممكناً تجاهل «الدولة الإسلامية» وقوى التطرف الأخرى. وكذا الحال في ليبيا التي لم تعد أزمة محلية، إذ تتضارب فيها مصالح عربية قريبة وبعيدة، فضلاً عن المخاوف الغربية، الأوروبية خصوصاً. وهي تشكل تحدياً كبيراً لمصر والجزائر وتونس. وكذلك الأمر في قطاع غزة حيث تلتقي مصالح وتتضارب أخرى. وهذا بيّن وواضح من المبادرة المصرية ومبادرة قطر بالتفاهم مع تركيا التي انتقد رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان الدور المصري. فضلاً عن موقف إيران وحلفائها الذين كانوا مبدئياً وراء الترسانة الصاروخية لحركة «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ويأملون اليوم بعودة القطاع إلى محور الممانعة.

 

 

مثلما خلفت الأحداث الأخيرة في العراق وسورية وليبيا واليمن أوضاعاً جديدة، تخلق الحرب على غزة أوضاعاً جديدة ومعطيات وحسابات وموازين قوى مختلفة. كان متوقعاً أن تترك تداعيات سقوط حكم الرئيس محمد مرسي والتغيير الكبير الذي حصل في مصر آثارها في القطاع. هذه حقائق التاريخ والجغرافيا. يعرف الفلسطينيون جيداً مدى ارتباط مستقبل جنوب البلاد بمصر وسياساتها. خرجت «حماس» سريعاً من تحت عباءة سورية وإيران بعد اندلاع الأزمة الشامية. انضوت تحت جناح «الإخوان» في مصر. وجدت في القاهرة سنداً لا يقل أهمية عما كان لها في دمشق. وارتضت اتفاق التهدئة التي أبرمتها حكومة مرسي بعد الحرب الثانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. لكنها سرعان ما فقدت هذا السند بسقوط حكم «الإخوان». اشتد الحصار على القطاع. واقفلت القاهرة الأنفاق التي كانت تمد أهلها ببعض حاجاتهم والمواد اللازمة لاستمرار الحد الأدنى من حركة العمران والاقتصاد. باتت الحركة مكشوفة ومحاصرة تماماً. ولم يكن من مفر من التوجه نحو المصالحة مع السلطة. وكانت حكومة التوافق الوطني. لكن هذه الخطوة الأولى في طريق المصالحة والعودة إلى إدارة واحدة للشأن الفلسطيني أثارت إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا. لم تحقق لها ما كانت تأمل. كانت تتوقع إعادة فتح معبر رفح وتوفير الرواتب المنقطعة عن الموظفين في غزة منذ أشهر. كانت تريد رمي الحمل وأعباء الأوضاع المتدهورة لجمهور المحاصرين من سنوات في حضن القيادة في رام الله بما يقيها غضبتهم.

 

 

لكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي «حماس». القاهرة لم تتخلَ عن تشددها على المعبر. دمرت الأنفاق، ولم توفر الحركة من الاتهامات والمحاكمات التي يخضع لها «الإخوان» في مصر. وحملتها المسؤولية عن بعض ما يجري في سيناء حيث تخوض السلطة المصرية مواجهة واسعة مع حركات اعتمدت طويلاً على ما يصلها من القطاع من ذخيرة ودعم. وشملتها الموجة السياسية العربية الواسعة الغاضبة على «الإخوان». ولم تستطع السلطة توفير الرواتب بعد قطع تل أبيب أموال الضرائب. ولم يتحرك الغرب لمساعدة السلطة. كان يتفرض بالحكومات الغربية التي طالما عملت ونادت بوجوب تعزيز سلطة الرئيس محمود عباس وحركة «فتح» في مواجهة الحركات الفلسطينية المتشددة، أن تلجأ سريعاً إلى دعم حكومة «التوافق الوطني» الخالية من العناصر الحزبية. ومساعدتها على استعجال تحسين الأوضاع في القطاع بما يحدث فرقاً كبيراً بين السلطتين، سلطة «حماس» والسلطة في رام الله. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.

 

 

أما الحكومة الإسرائيلية فوضعت هدفاً رئيسياً هو تدمير المصالحة لإبقاء الوضع الفلسطيني منقسماً بين قيادتين ما يسهل عليها التنصل من الضغوط الأميركية والأوروبية لاستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، ومواصلة سياسة الاستيطان وطي صفحة مشروع الدولتين. واستغلت انشغال العرب بمشاكلهم الداخلية للإنقضاض على «حماس». فضلاً عن أن بنيامين نتانياهو انخرط في صراعات اليمين المتشدد للحفاظ على حكومته وزعامته لـ «الليكود». فيما كان جيشه يستعد لجولة من الحرب من أجل تدمير الترسانة الصاروخية في غزة والأنفاق التي باتت تشكل قلقاً دائماً للمستوطنين المحاذين للقطاع.

 

 

في ضوء كل هذه المتغيرات والمعطيات كانت الحرب الثالثة متوقعة على غزة منذ بدء الخروقات لاتفاق التهدئة مطلع السنة الجارية. كان الطرفان المتصارعان بحاجة إلى مواجهة تعيد رسم قواعد جديدة للصراع وخلط الأوراق محلياً وخارجياً. لذلك لن يكون سهلاً التوافق على تهدئة دائمة. لن يكون بمقدور نتانياهو تحقيق أهداف حملته بترسيخ الهدوء مع القطاع، أو بتوجيه ضربة قاصمة إلى «حماس» مهما ادعت دوائره أنه لا يريدها لأنه يحرص على سلطة الحركة خوفاً من ان تخلفها سلطة أشد تطرفاً وغلواً. ولم يستطع حتى الآن ولن يستطيع ترميم صورة القوة الرادعة لقواته. بل إن الغارات التي تستهدف المدنيين والأطفال والمدارس والمستشفيات وحملة التدمير الواسعة تستثير غضب الرأي العام الدولي. فيما تبدو «حماس» أكثر تحرراً في الرد بعدما أزاحت مسؤوليتها عن أهل القطاع ووضعتها في عهدة حكومة التوافق بقيادة السلطة. وإذا كانت معنية بوقف حمام الدم في القطاع فإن الغضب ينصب على إسرائيل ووحشيتها، فيما الحركة تبدي استعداداً كاملاً لوقف النار... ولكن شرط فك الحصار نهائياً وفتح المعابر. وهذه مطالب يلح عليها جميع الفلسطينيين.

 

 

نجحت «حماس» في فك العزلة عنها ووضعت رفع الحصار عن القطاع بنداً رئيساً في أي تفاهم جديد. أحرجت كثيرين من مصر إلى السلطة في رام الله. استعادت صورتها وعادت لاعباً لا يمكن تجاهله. وهي تلقى دعماً واضحاً من تركيا وقطر اللتين لا تخفيان معارضتهما نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي. وعادت تلقى حظوة لدى إيران وحلفائها ما دام أنها عادت إلى خيار المقاومة.

 

 

ولا غرابة في أن تكون لها كلمة مسموعة في المفاوضات الجارية لوقف الحرب. وإذا كانت إسرائيل تشدد على تدمير الأنفاق والترسانة العسكرية وضرب الجناح العسكري للحركة، فإن النتائج حتى الآن بحسب دوائر إسرائيلية لا تفرح نتانياهو. فخسائر الدولة العبرية أكبر هذه المرة مما كانت عليه في الحربين السابقتين، فيما خسائر «حماس» أقل. وإذا نجحت الديبلوماسية في إبرام اتفاق يلبي شروط الطرفين على غرار ما حمل القرار 1701 إثر حرب تموز (يوليو) 2006 على لبنان، يمكن الحركة أن ترى إلى نفسها أنها حققت انجازاً في إقامة توازن ردع ورعب، كما هي الحال في جنوب لبنان. وتستعيد بعضاً من مواقفها التي ارتضت التخلي عنها في ضوء العزلة الخانقة التي عانت منها في الأشــهر الأخــيرة. ولم تعد التسوية ممكنة من دونها.

 

 

لم تعد قضية غزة رهن تفاهمات تقتصر على الأطراف التقليديين، أو رهن إرادة القوى الكبرى ومصالحها. لم تعد لها اليد الطولى وحدها. بات اللاعبون والشركاء كثراً، من مصر وحلفائها من القوى الخليجية، إلى إيران وتركيا وقطر. وأثبتت القوى المحلية في أزمة القطاع أنه لم يعد ممكناً تجاوزها في أي تفاهم. تماماً كما هي حال القوى الليبية التي تتنازع على السلطة ومواقعها وقراراتها. وكما هي حال الحوثيين في اليمن. وحال «الدولة الإسلامية» ومن يواليها في كل من العراق وسورية، على تنوع الأوضاع والاختلافات بين هذه القوى وفي هذه الدول. تداعى النظام الإقليمي. وكثرة اللاعبين وتضارب مصالحهم يعلقان الحلول والتسويات ويمددان عمر الأزمات... قبل أن يولد النظام الجديد.