قمة هلسنكي يوم الاثنين المقبل، هي الأولى رسمياً بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. التقيا قبل نحو عام في هامبورغ على هامش اجتماع مجموعة العشرين، ثم على هامش «قمة أبيك» في فيتنام بعد أشهر. أهميتها أنها تجمع زعيمين يسعى كل منهما إلى تكريس شعاره في استعادة قوة بلاده وجعلها في الصف الأول، وأنها تنعقد في ظل حروب يخوضها الرجلان كل على طريقته، وآخرها الحرب التجارية التي أشعلها البيت الأبيض مع الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك. ما يسعيان إليه هو البحث في استعادة علاقات طبيعية بين البلدين تساهم في تبريد بعض الجبهات. يستبعد أن يبرم الزعيمان صفقة كبرى تشمل كل الملفات العالقة، من توسّع حلف شمال الأطلسي وقضية أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، إلى العقوبات الاقتصادية على روسيا، ومستقبل الوضع في سورية. لذا تخشى الدول الأوروبية أن يتغاضى الرئيس الأميركي الذي لا يزال يواجه التحقيقات في تدخّل موسكو في الانتخابات الرئاسية، عن البحث في بعض هذه القضايا. وتخشى أكثر أن يقدم تنازلات أو تعهدات إلى نظيره الذي يتهم بأنه يطمح إلى تقويض الاتحاد الأوروبي. وهو ما يخشاه أيضاً بعض رجال الإدارة الذين يصرون على أن الهدف من القمة هو الاستماع إلى سياسات الكرملين في الشرق الأوسط وأوروبا.

تكتسب هذه القمة أهميتها أيضاً من كونها تأتي في سياق لقاءات مفصلية سبقتها أو تليها. الرئيس ترامب يحضر اليوم القمة الثامنة والعشرين لحلف شمال الأطلسي في بروكسيل. وهو المنادي منذ اليوم الأول لوصوله إلى البيت الأبيض بأن لا أمن بالمجان. لذلك، لا يزال القادة الرئيسيون في الاتحاد الأوروبي يبحثون عن صيغة ذاتية لا تعتمد كلياً على الولايات المتحدة لتوفير الأمن والحماية لدول القارة العجوز. وينتقل بعد غد إلى بريطانيا لمحادثات مع تريزا ماي رئيسة الوزراء. ويسعى إلى إبرام اتفاق تجاري مع حكومتها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي الذي كان رحّب به. وتأمل لندن باتفاق طموح فيما لا تزال محادثاتها مع بروكسيل تتعثر حتى الآن ولم ترس على صيغة متفق عليها للعلاقات الاقتصادية والتجارية بينها وبين دول الاتحاد. وتنظر الإدارة الأميركية إلى المملكة «حليفاً أساسياً في مجال الأمن كما في الاقتصاد»، كما عبر السفير الأميركي في لندن، على رغم أن واشنطن عارضت وتعارض انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.

لا تتوقع أوروبا أن تثمر قمة بروكسيل في معالجة الخلافات بين ضفتي الأطلسي، أو في تليين مواقف الرئيس ترامب وتغيير سياساته، وآخرها الحمائية التجارية وفرض رسوم على سلع ومنتجات، والتهديد بفرض رسوم على السيارات الأوروبية في الولايات المتحدة، بعد الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ ثم الانسحاب من الاتفاق النووي. فقمة مجموعة الدول الصناعية السبع قبل شهر في كندا فاقمت الخلافات وعمقت الهوة بين ترامب وحلفائها الستة الآخرين. ولا ترغب أوروبا في أن تجد نفسها في موقع واحد مع الصين وروسيا بمواجهة حليفها التاريخي والطبيعي التي تحتاج إلى مظلته الأمنية لحماية مصالحها واستقرارها وحتى استقلال بعض دولها. فهي تهجس بالأخطار الأمنية التي تهب عليها من الشرق وتذكرها بأيام الحرب الباردة. مثلما تخاف مواصلة الكرملين سياسة تقويض دعائم اتحادها الذي يعاني من مصاعب جمة وتحديات كبيرة. علماً أنها تعرف أكثر من غيرها أن الظروف مختلفة تماماً، وأن لا قدرة لموسكو على استعادة ما كان لها أيام الحقبة السوفياتية. وأن ما تسعى إليه هو علاقات طيبة مع واشنطن تبعد منها كأس سباق جديد للتسلح، وتعيد إليها بعض دورها المفقود. ولا تفضل بالتأكيد أن تكون «تابعة» لبكين، القوة الاقتصادية الثانية في العالم، والتي تتقدم لبناء قوة عسكرية ضاربة، وتهدد بخوض حرب تجارية متكافئة مع أميركا.

كذلك، تراقب أوروبا بحذر تحركات الصين على جبهة دول البلقان و11 دولة في الاتحاد الأوروبي (من شرق القارة ووسطها). وكانت حاضرة في قمة الـ16 زائداً واحداً في صوفيا قبل أيام. بالطبع، لا ترغب في هذه الظروف إغضاب الاتحاد بمنافسته في عقر داره. لكنها لن تتخلى عن طموحها في إنشاء بنية تحتية في عدد من دول القارة، خصوصاً في ظل ما أطلقت عليه» أكبر حرب تجارية» مع الولايات المتحدة. وكانت بكين رصدت في قمة العام الماضي اعتمادات لبناء طرق ومرافئ ومجمعات صناعية ومحطات كهرباء... في إطار مشروع «طرق الحرير الجديدة» الذي سيسهل حركة البضائع بين أوروبا والشرق الأقصى. وستعقد قمة صينية - أوروبية مهمة بعد أيام. وتأمل القيادة الصينية بأن تقف القارة العجوز معها في مواجهة الرئيس ترامب الذي قرر فرض رسوم على صادرات بلاده من الصلب والألومنيوم من كندا وأوروبا والصين، كما فرض رسوماً على بعض الصادرات من روسيا. وقد رد كلّ من موسكو وبكين سريعاً بفرض رسوم مماثلة. وهو أمر يهدد بانهيار جهود بذلها المجتمع الدولي في إطار منظمة التجارة العالمية لإلغاء الحدود أمام انتقال البضائع.

ولا يستبعد أن يمارس الرئيس ترامب «فوقيته» على شركائه الأوروبيين، عشية لقائه مع سيد الكرملين، تماماً كما تصرف قبل نحو شهر مع قادة مجموعة الدول السبع في كندا. حتى أنه لم يوقع على البيان الختامي بعدما كان أعلن موافقته عليه. كان منتشياً بالاختراق التاريخي الذي سيحققه في قمته بسنغافورة مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون. وقد يتحدث، بعد قمة الاثنين، عن صداقته وإعجابه بالزعيم الروسي، متناسياً كل العقوبات التي تفرضها إدارته والحكومات الأوروبية على موسكو بسبب تدخلها في أوكرانيا وضمّها شبه جزيرة القرم، وسياسة التهديد والترهيب التي تمارسها على جيرانها في البلطيق وأوروبا الشرقية. ومتناسياً أيضاً أن قوات أميركية وأوروبية ترابط في دول البلطيق وبولندا ودول أخرى في شرق القارة، بسبب مخاوف من جارتها الشرقية وتحركاتها ومناوراتها العسكرية وتكرار تجربة أوكرانيا وقبلها جورجيا قبل نحو عقد. ومتناسياً كذلك جهودها في تشجيع صعود اليمين المتشدد وانبعاث النزعات القومية في دول القارة العجوز لتقويض اتحادها.

يعتقد الرئيس ترامب أن الحرب التجارية التي يخوضها مع الصين والاتحاد الأوروبي وجارتيه كندا والمكسيك، ستؤدي إلى طواعية هذه الدول ورضوخها لشروطه. وهو واثق بأن هذه الحرب يسهل كسبها. وينظر إلى كل الاتفاقات التجارية السارية بين الولايات المتحدة والدول الأخرى في غير مصلحة بلاده. وهو يؤمن بأن استخدام سياسة التهديد والضغط تثمر نتائج أفضل بكثير من الديبلوماسية الطويلة النفس والمهادنة والمراعاة. وهو نهج يختلف تماماً عن نهج أسلافه، وآخرهم باراك أوباما الذي أرسى سياسة تقوم على الانفتاح وإشراك كل القوى الكبرى الدولية والإقليمية في إدارة شؤون العالم. بالطبع، يستند ترامب في التمسك بأسلوبه إلى فشل كل الاتفاقات السابقة مع نظام بيونغ يانغ. وكذلك إلى فشل الاتفاق النووي في دفع إيران إلى تغيير سياساتها وسلوكها في الداخل، وفي الخارج خصوصاً، حيث تمد نفوذها في أكثر من دولة عربية. لذلك، يرى أركان إدارته أن سياسة التلويح بالقوة دفعت الزعيم الكوري كيم جونغ أون إلى الإعلان عن فكفكة برنامج بلاده النووي. ثم الجلوس إلى الطاولة مع سيد البيت الأبيض. وهم يدفعون باتجاه السياسة نفسها مع طهران. لذلك، انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي. واستأنفت سياسة فرض العقوبات على الجمهورية الإسلامية. وتركز خصوصاً على منعها من تصدير النفط لتعميق متاعبها الداخلية وإرغامها على التفاوض مجدداً في مستقبل ملفها النووي وبرنامجها الصاروخي ووقف مشروعها التوسعي.

أوروبا قلقة من وتيرة التصعيد الأميركي، وتخشى اندلاع حرب نفطية بعد تهديد إيران بإقفال مضيق هرمز إذا نجحت واشنطن في وقفها عن تصدير نفطها. لكنها تخشى أيضاً أن تكرس هذه السياسة حيال طهران إطلاق يد موسكو في سورية، وإعادة تأهيل النظام، إذا التزم الكرملين تعهداته بإخراج «الحرس الثوري» والميليشيات التي يرعاها من بلاد الشام. وهي راقبت بقلق التفاهم بين إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة والأردن على عودة «الجبهة الجنوبية» إلى سلطة الحكومة في دمشق. ولا يستبعد أن يؤكد الزعيمان في لقائهما هذا التفاهم الذي لن ينتهي، كما ينص على ذلك، بخروج القوات الأميركية نهائياً وفوراً من سورية. إذ لا يعقل أن تغادر هذه القوات كل قواعدها في مناطق انتشار «قوات سورية الديموقراطية». إذ لا ينطلي على واشنطن واقع مشاركة ميليشيات موالية لطهران في الحملة على درعا. وهي تدرك أن الجيش السوري لا قدرة لديه عدة وعديداً على الاحتفاظ بكل المناطق التي ساعده حليفاه في استعادتها. لذلك، لن تنتفي الحاجة إلى مساهمة قوات موالية لإيران، ما دام أن روسيا لا ترغب في دفع المزيد من جيشها للحفاظ على النظام مخافة الغرق في المستنقع السوري.

يخوض الرئيس ترامب كل هذه الحروب من دون أن يضمن سبل الانتصار فيها كما يتوقع أو يبشر. وحتى أوساطه تأخذ عليه عدم طرح إدارته استراتيجية واضحة على جبهات هذه الحروب. وحتى المحادثات التي أجراها وزير خارجيته مايك بومبيو أخيراً في بيونغ يانغ، لم تؤشر إلى بلورة خطة زمنية لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي. ويبقى إعلان كيم مجرد بيان نيات، ورهناً بالعلاقات السياسية بين البلدين، وبين واشنطن وبكين أيضاً التي كانت لها ولا تزال اليد الطولى في دفع جارها الكوري الشمالي إلى قمة سنغافورة. وقد نددت بيونغ يانغ بعد محادثات بومبيو، بـ»المطالب المبالغ فيها» لواشنطن. وقال ناطق باسم وزارة الخارجية أن «أسرع طريق» لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي سيكون «من خلال نهج مرحلي يلزم الجانبين اتخاذ خطوات متزامنة». ويخشى بعد هذه المحادثات أن تتراجع بيونغ يانغ عن التزامها، خصوصاً إذا ارتأت الصين أن تصعد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. فهل تسقط الآمال التي علقت على قمة سنغافورة؟ وهل تتهاوى السياسة الأميركية القائمة على التلويح بالضغوط والحروب الاقتصادية والنفطية؟