انتهى ” المؤتمر لمسيحيي المشرق” الذي عقد في بيروت الاسبوع الماضي الى تمنيات بعيداًعن اي قرارات او توصيات.هي الكلمات نفسها تتكرر منذ اواسط القرن الماضي على السنة المسؤولين المسيحيين الروحيين والسياسيين، دون طائل.القضية المسيحية المشرقية تزداد تعقيداً من جيل الى اخر، في ظل انظمة عربية تفتقد ادنى مقومات الديموقراطية من حرية وعدالة واستقرار .مسيحيو سوريا بعد اقباط مصر واشوريي العراق وما تبقى منهم في فلسطين،يجسدون اليوم الصورة الحقيقية لمسيحيي الشرق بما يعانونه من اضطهادات وتهجير واحيانا الموت على يد منظمات سلفية وجهادية، وفي كثير من الاحيان على يد قوات شرعية ،دونما ادنى اعتبار للتراث التاريخي والحضاري المسيحي الذي وفر لسوريا اسمها وعلة وجودها وشروط ديمومتها في الشرق العربي. على هذه الصورة المأساوية تستكمل اليوم في ظل ما عرف بـ ” الربيع السوري” المؤامرة التاريخية على مسيحيي سوريا، بما يرافقها من ضغوط ترغيبية حيناً وترهيبية اغلب الاحيان لاخراجهم من بلادهم،ولكن الصورة نفسها قد لا تكون على هذه البشاعة في مصر والعراق وفلسطين،وبالتالي يشكل مسيحيو سوريا علامة فارقة في هذه الدوامة المشرقية خصوصاً ان التجارب والمحن المتوارثة مسيحياً جيلاً بعد جيل وعبر مختلف العهود الاسلامية منذ الفتوحات الاسلامية حتى اليوم، باتت من الصعوبة ان لم يكن من الاستحالة سلخ السوريين المسيحيين عن اصولهم وجذورهم وتاريخهم وحضارتهم ، ذلك ان سوريا عبر التاريخ القديم والحاضر تستمر ارضاً مسيحية بامتياز .وهذا ما اكدته التنقيبات الاثرية وما جاء على لسان عشرات المؤرخين والباحثين حتى قيل ان الساحل السوري شكل بداية البشارة المسيحية في مشارق الارض ومعاربها على ايدي الرسل يتقدمهم القديس بولس الذي يعود له الفضل الاكبر وهو السوري المتجذر في ارضه ومجتمعه في تاسيس ” كنيسة جامعة رسولية” من بوابات دمشق الى افسوس وانطاكيا وروما… ودائماً على توصيات السيد المسيح” اذهبوا وتلمذوا كل الامم “.. وقد صمد المسيحيون على مر التاريخ في مناطق تواجدهم والى كل مكان نقلوا بشارتهم دفعوا الاثمان الغالية . لقد اانخفض عدد المسيحيين السوريين الى نحو 30% مع مطلع القرن العشرين، ترتفع نسبتهم في دمشق وحمص واللاذقية والجزيرة الفراتية في حين انتشروا باعداد اقل في حلب وحماه وادلب ، لكنهم اينما وجدوا لعبوا دوراً ثقافياً وفكرياً وحضارياً متقدماً، كما حالهم في النضال السياسي والاجتماعي والوطني  وخصوصا في مرحلة مقاومة الانتداب الفرنسي على البلاد حيث برز منهم ميشال عفلق والياس مرقص اللذين عكسا في افكارهما دعوة واضحة الى الاشتراكية والقومية العربية في حين عكس فارس الخوري الذي تولى رئاسة احكومة لمرات متوالية خلال  رئاستي هاشم الاتاسي وشكري القوتلي ، سياسة التوازن بين الرابطين القومي والوطني وبالتالي عكست هذه الطروحات التنوع السياسي لمسيحيي سوريا ما اعاد للمسيحيين السوريين بعض نفوذ افتقدوه لعصور طويلة زادهم فعالية هجرة الارمن وعشرات الاف المسيحيين ، الى تهجير مئات الالاف نحو سوريا.. كان اغلب مسيحيي سوريا من ملاك الارض والمستثمرين الاقتصاديين ما امن لهم حضوراً فعالاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي مكنهم من المشاركة في صناعة القرار. بالارقام كانت ما نسبته 75% من الوكالات الاجنبية بيد المسيحيين في منتصف القرن الماضي انما وبعد  ثورة الثامن من اذار اتجهت الدولة السورية نحو السياسة الاشتراكية ما عنى فعلياً تجريد المسيحيين من املاكهم الخاصة وانتهاء المبادرات الفردية في السوق لصالح سوق الدولة . نتج عن هذا التحول فقدان الدور الاقتصادي للمسيحيين وهجرة الطبقة الاكثر ثراء وتهريب اموالها نجو لبنان في مرحلة اولى والى دول الاغتراب في مرحلة ثانية.  ومن جهة اخرى كان للحرب الاهلية اللبنانية ارتداداتها وادت الى ما ادت اليه من هجرة كبيرة والمسيحيين بشكل خاص الذين تربطهم بمسيحيي سوريا علاقات قرابة وتجاور، ما يعني  ان هجرة المسيحيين اللبنانيين دفعت بشكل او بآخر الى تشجيع هجرة المسيحيين  السوريين.بالاضافة الى ان عامل اخر تمثل بتمرد ” الاخوان المسلمين” في سوريا عام 1979  وعصيانه على النظام طيلة ثلاث سنوات متواصلة ،فرض واقعاً جديداً على مسيحيي سوريا وخصوصا ” الطليعة المقاتلة” الذراع العسكري لـ ” الاخوان” اتخذت مدينة حماه موقعاً استراتيجياً للانطلاق نحو عموم المحافظات السورية مصحوبة بخطاب ديني متطرف وعمليات ارهابية متلاحقة ضد المسيحيين ادت الى تزايد هجراتهم بشكل كثيف ومتسارع ، ما دفع الحكومة السورية في اواسط ثمانينيات القرن الماضي الى منع اصدار تاشيرات خروج المسيحيين من البلاد. قرارسوريا بمنع هجرة المسيحيين او من تبقى منهم  ما زال ساري المفعول انما على الورق ليس اكثر. ذلك ان ما يتعرض له المسيحيون من عنف وارهاب واضطهاد في ” الربيع السوري” يتعذر على الوصف ودونما اي اعتبار لاصالتهم العربية  والى ان وجودهم متجذر في هذه الارض على تنوع مذاهبهم. ففي حلب وحدها التي نالت نصيبها من الارهاب المتنوع الاشكال والانواع عشر ابرشيات في حين تستمر دمشق كرسياً بطريركياً ومقراً لثلاث كنائس مسكونية : بطريركية انطاكيا وسائر المشرق للروم الاورثوذوكس، بطريركية انطاكيا وسائر المشرق للسريان الاورثوذوكس، بطريركية انطاكيا والقدس للروم الملكيين الكاتوليك، وكلهم يتكلمون اللغة العربية مع استثناءات قليلة كما ابناء معلولة حراس اللغة الارامية التاريخية المقدسة،  والسريانية في بعض قرى الجزيرة الفراتية، والاشورية لغة 24 قرية على ضفتي نهر الخابور. لكن الواضح ان هذا التراث المسيحي الكبير بناسه ومقاماته ومقدساته المنتشرة بكثرة على الساحة السورية ، لم يبعد عن مسيحيي سوريا عنف الاضطهاد والتهجير الدائمين، حيث لم يبق منهم ما نسبته 8% من مجموع السكان نتيجة الهجرات المتوالية والمكثفة، وخصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية عام2011 .صحيح ان غالبة المسيحيين حاولت اعتماد موقف حيادي باستثناء اقلية محدودة اصطفت مع المعارضة انطلاقاً من رفض الحكم السلطوي وبحثاً عن حرية مفقودة واقلية اخرى رفضت موالاة النظام خوفاً على حياتها وممتلكاتها  من شغب وتعصب الكثير من التنظيمات الاسلامية المعارضة التي لا يتردد بعضها عن تنفيذ اعمال ارهابية تقشعر لها الابدان. لكن الموقف الحيادي لم ينقذ مسيحيي سوريا من مواجات الاضطهاد والتكفير والتهجير،  وفي الوقت الذي لجأ فيه الكثيرون الى لبنان، يحاول قسم كبير منهم الحصول على تاشيرات الهجرة او يقبعون في خيامهم او عند اقارب على امل العودة الى البلاد، ويبدو هذا الامل من المستحيلات في المدى المنظور. اذا كان لبنان  خلص من هذه المؤامرة، اقله حتى اليوم،فان مسيحيي المشرق في قلب الماساة بما هي عليه من عنف وتهجير. البطريرك مار بشارة بطرس الراعي نبّه الى خطورة ما يجري وخصوصا في سوريا، واعتبر ان الدول العربية بحاجة الى ديموقراطية واصلاحات، شرط الا تنحرف المطالبات عن مسارها الحقيقي فتؤدي الى تنامي الاصوليات والفوضى والهجرة المتنامية للمسيحيين ” الذين ان غابوا عن الشرق فقد الشرق خصوصيته وتميّزه”. الراعي اكد ان مسيحيي الشرق اصيلون ولا يقاسون بالعدد، بل بحضورهم الفاعل والتاريخي الذي يعود الى الفي سنة. واضاف وجودهم في هذا الشرق هو في صلب ايمانهم . لهم حقوق المواطنة وليسوا بحاجة الى حماية احد. المواطنة تحميهم ومن يريد ان يدعمهم، عليه ان يوقف تغذية العنف وارسال الاسلحة الى الشرق”. البطريرك غريغوار لحام وكرسيه الرسولي في قلب دمشق كشف عن ” كارثة حقيقية اصابيت مسيحيي المشرق العربي”، مبديا مرارة عظيمة من الارهاب لا علاقة له بموالاة او معارضة واسف شديد على مواقف الدول العظمى ” التي بدل ان تضع كا امكانياتها السياسية والاقتصادية والانسانية لوقف نزيف الدم في سوريا ، تتهرب من مسؤولياتها والتزاماتها خدمة لمصالحها المباشرة، غير معنية بسقوط مئات القتلى والجرحى ، والى ما يزيد عن اربعة ملايين نازح في داخل سوريا والى الدول المجاورة” النائب البطريركي العام سمير مظلوم تساءل ” لماذا يدفع الابرياء السوريون من مسيحيين ومسلمين ثمن الخلاف بين النظام والمعارضة؟معرباً عن اسفه لان الكنيسة عاجزة عن وقف حمام الدم السوري والنزوح المسيحي المتكرر وقال :” العنف المضاد لا يوصل الى اي نتيجة … ففسي المحصلة سوف يعيش المشرقيون معاً على اختلاف طوائفه ومذاهبهم “. من جهته، وزير المال والاقتصاد السابق الدكتور دميانوس قطار يعارض بطريقة ما يسمى بـ” كارثة المسيحيين”وحسبه ان ” الدور المشرقي لم يكن في يوم من الايام عددياً، انما نوعياً”، مشيراَ الى دراسة نشرتها اخيراً مجلة ” ايكونوميست” البريطانية اكدت فيها تضاعف اعداد المسيحيين المشرقيين في خلال قرن من600 الف مسيحي في بدايات القرن العشرين الى 4 مليوناً في نهاياته، وبالتالي على هؤلاء العمل على استعادة دورهم الحضاري والحقيقي في منطقة تغلي بالصراعات والنزاعات”. وتساءل قطار عن الاسباب والدوافع التي دعت المنظمات الاصولية لاحتلال بلدة معلولة وقال :” هل كانت معلولا قلعة مسلحة ليلاقي ابناؤها هذا المصير المأساوي؟ واستنتج ان ما اراده الغزاة هو تدمير الدور المسيحي الحضاري والرائد في العالم العربي. باختصار ، ان الاعتداءات التي تطال المسيحيين العرب من اي جهة كانت،  هو اعتداء على الامة العربية بغالبيتها الاسلامية. المفجع في الامر ان الاقلية المسيحية المشرقية مفجوعة على مرتين، الاولى من جانب الانظمة العربية الحاكمةقديمها وجديدها، والثانية على ايدي منظمات تقتل وغزو وتغتصب على مرأى من القوى المحلية والاقليمية والدولية .. صحافي وكاتب لبناني