لا شك أن العام 2014 سيكون عاماً مفصلياً على مستوى منطقة الشرقالأوسط وعلى لبنان بشكل أساسي. فهذا البلد الصغير الذي يشبه الجرس من حيث حجمه من جهة، والضوضاء الكبيرة التي يحدثها من الجهة الأخرى، تنتظره في السنة المقبلة العديد من الإستحقاقات المفصلية: إنتخاب رئيس جديد لجمهورية متقلّبة على صفيح ساخن، إنتخابات نيابية ينبغي ان تتوفر لها أقصى ظروف الأمن والأمان (التي لم يعرفها هذا البلد منذ سنوات طويلة)، واختيار المفتي الجديد للطائفة السنية اللبنانية، بما يعنيه ما ستؤول إليه خواتيم هذا “الاختيار” من حيث واقع “صراع الديكة” الجاري على قدم وساق داخل خنادق الطائفة، ما بين الحريرية وأخصامها، ولا سيما منهم المفتي الحالي الشيخ محمد رشيد قباني. ولعل تهيّب هذه الأمور جميعاً هو ما برح يعطّل تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان والتي أصبح الرئيس تمام سلام المكلّف بتشكيلها، عاطل عن العمل، في ظل رغبة مكتومة لدى الرئيس المستقيل ميقاتي بتعويم حكومته مقابل شروط لا يُصرّح بها إلا لمن يصطنعون الآذان المُقفلة، ومحاولات سعودية ــ حريرية لإعادة الرئيس الخارج سعد الحريري على حصان أبيض، ما أمكن. وفي غمرة كل ذلك يظهر رأس كرة جليد الإنتخابات الرئاسية وكأنه وهم منسوج من خيوط مخيّلة جامحة. فالرئيس الحالي ميشال سليمان لا يملّ من تكرار زهده بالتمديد ورفضه له واعتباره “عملاً غير دستوري”، بينما يؤكد أخصامه أنه مستميت في سبيل التجديد (وليس التمديد)، ويستدلّون على ذلك بالعديد من الإشارات التي يزعمون أنها تصدر عنه وراء الكواليس أو عفو الخاطر، ثم يتوّجون كل ذلك بزيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية في هذه الفترة بالذات، واجتماعه بملكها الذي قام باستقدام الرئيس سعد الحريري لحضور جلسته مع ضيفة اللبناني، في إشارة ذهب القوم كل المذاهب في تفسيرها، وأبرز ما قيل في ذلك أن العاهل السعودي استقبل الرئيس سليمان (بعد أن كان رفض استقباله في الماضي القريب) لكي “يبارك” له تجديد الولاية، ويبلغه بأن رئيس حكومة عهده المجدد ينبغي أن يكون الرئيس الحريري، وذلك في ما بدا أنه إشتراط سعودي على الرئيس اللبناني الذي لا يملك الكثير من الأوراق في هذه اللعبة غير المتكافئة. وإذا تذكرنا اعلان تيار المستقبل منذ أسابيع حماسه المفاجئ لتلبية دعوة رئيس الجمهورية ميشال سليمان للحوار في اي وقت دعا اليه، في موقف للتيار يأخذ جانب الرئيس في مواجهة منتقديه والمشككين بمواقفه من جماعة 8 آذار، يتبيّن لنا أن استقبال العاهل السعودي للرئيس سليمان، وما دار في هذا اللقاء خلف الأبواب المقفلة، وبوجود الرئيس سعد الحريري بالذات ومن خارج البروتوكول، لا يعني إلا تنفيذاً لما جرى رسمه على مستوى تقاسم الأدوار بين عبدالله وسليمان في سبيل مستقبل الجمهورية التي ينبغي أن تكون سليمانية- حريرية، ولا شيء غير ذلك.  إلا أن التجديد أو حتى التمديد لسليمان لن يتم بمجرّد الاتفاق عليه بين الراغين فيه. فالضوضاء اللبنانية لن تهدأ بإشارة سعودية، لأنها ناشئة بالفعل عن ضفتين متقابلتين ومتعارضتين، ترفض إحداهما ما تقبل به الأخرى. ثم إن السعودية، إذا كانت تتمتع بحق الفيتو على جماعة 14 آذار، فهي لا تملك وسيلة ضغط مشابهة على جماعة 8 آذار، بل إن العكس هو الصحيح، ولا سيما بعد خروج السيد حسن نصرالله، بما هو وما يمثّل، إلى اتهام المملكة السعودية صراحة وبالإسم بأنها هي من يمنع تشكيل الحكومة اللبنانية، متابعاً بأن “حزب الله” لن يسحب مقاتليه من سورية، وبالتالي لن يلبّي الشرط الإلزامي الذي يطرحه الشركاء في الوطن الذين هم مناصرو وجهة النظر السعودية. وحيث أنه، وخلافاً لكل التوقعات، أثبت النظام السوري صلابته، لا سيّما لناحية المؤسسة العسكرية التي بقيت تركيبتها الأساسية وفيّة له، مقابل الفوضى العارمة التي عمّت صفوف معارضيه الذين باتوا في تراجع ميداني واضح، فذلك كله يوصل إلى رسم صورة أخرى ومسارٍ مختلف لما هو متوقّعٌ من أحداث، وخصوصاً على مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية.  فالحرب الدائرة في سورية مع الغلبة التي تتراكم إلى جانب النظام، ستقوّي ورقة معارضي االتجديد لسليمان بإرادة سعودية. وهذا بعُملة اليوم أن لا حكومة في الأفق المنظور، وأن الأمور ستكون مرتهنة لمآلات الحرب الحامية في سورية، ولا سيما نتائج معركة القلمون المنتظرة منذ وقت غير قصير والتي يُعتقد أنها دخلت مراحلها الأولى. وبناء عليه يُتوقّع للبنان المزيد من الغليان ما يُهدّد ربما بزيادة وتيرة التفكك للدولة ووضع الجيش أمام تحديات جِسام لن تكون مواجهته لها سهلة.  هكذا، وبدلاً من الإنصراف لاختيار رئيس جديد للبنان، سيجد المعنيون أنهم مُلزمون بالبحث في صيغة جديدة للحكم غير الصيغة الراهنة التي أثبتت موتها. وهذا لا يعني الذهاب إلى “طائف” جديد بل إلى… مؤتمر تأسيسي بإشراف مناسب (خارجي بالطبع) بهدف إعادة بناء هذا البلد الذي، ومنذ 22 تشرين الثاني 1943، تاريخ استقلاله، ما زال دولة تحت التأسيس. أما الحديث عن انتخابات رئاسية، أو عن رئيس جديد.. أو ممدد له، أو حتى عن حكومة، فكلّه من نوع “التغميس خارج الصحن” كما يقول المثل اللبناني السائر. فقبل الرئيس لا بد من جمهورية أولاً.