الروتين الاداري في الوزارة قاتل، وغياب المَكننة يُساهم في عرقلة مهمات المواطنين، فمِن طابق الى طابق، ومن مكتب الى مكتب، تتراءى لك معاناة المواطنين. فالوزارة ما زالت تعيش عصر الملفات الورقية التي توضع في صناديق، حيث يأخذ الموظّف وقتاً طويلاً ليبحث عن اسم صاحب المعاملة، وأجهزة الكومبيوتر لم تدخل بعد أروقتها.

أما السماسرة فيقفون "بالدور" يبحثون عن زبون لإقناعه باستلام ملفّه، بغية الربح المادي فقط، والرشاوى منتشرة بالجملة، إذ لا يستطيع المواطن تخليص معاملة من دون دفع رشوى، فيما الانتظار يدوم لساعات أمام مكاتب الضمان الإجتماعي.
هذا الواقع، تعيشه وزارة العمل منذ أعوام، واستمر مع تولّي وزراء تكتل "التغيير والإصلاح" هذه الحقيبة.

وبعدما حاول الوزيران بطرس حرب وشربل نحاس ضبطها، أتى الوزير سليم جريصاتي ومعه مكتب خدمات أقامه "التيار الوطني الحرّ" في الطابق السادس، بهدف تمرير معاملات المحاسيب وقبض السمسارات. لا شكّ في أنّ الفساد يضرب الوزارات ومؤسسات الدولة كلها بلا استثناء، لكنّ الفساد في وزارة العمل واضح الى العلن، ويتمثّل بمكتب "المستشار" في الطابق السادس الى جانب مكتب الوزير.

«منسقيّة» بالقوّة
فتح "التيار الوطني الحرّ" بعد تخلّيه عن نحّاس ومجيء جريصاتي، مكتب خدمات، أطلق عليه اسم "منسقيّة" يديرها محامٍ ومستشار قانوني قريب من أحد نواب التيار، يعاونه أخَوان من الفريق الأمني الخاص بالعماد ميشال عون، ويشارك هؤلاء عنصر أمني من "حزب الله" يدير المعاملات في الدوائر والطوابق السفلى، بينما يستلم المكتب بقية المعاملات، ثم يتقاسم الجميع الأرباح.

وقد نسج القيّمون على المكتب شبكة علاقات داخل الوزارة، من دون أن يستطيع جريصاتي إقفاله أو اتخاذ الخطوات الضرورية لإقفاله لأنّ القيّمين عليه أقوى من الوزير نفسه، ما يعني أنّ جريصاتي غير مؤهل لضبط وزارته.

يتحدّث كبار الموظفين داخل الوزارة عن قصة مخفيّة وراء قوّة المكتب، بعدما استطاع القيّمون عليه بناء شبكات عنكبوتية في الوزارة من أجل إتمام المعاملات وقبض السمسارات. وهذا النوع من المكاتب لم يكن موجوداً أثناء تولّي النائب بطرس حرب حقيبة العمل، وقد حاول "التيار" إقامة المكتب في عهد نحاس لكنه لم يوفّق لأنّ نحاس المعروف بقوّة شخصيته رفض الموضوع، ولم يردّ حتّى على عون.

وقد تسبّب هذا المكتب بإشكال كبير مع أحد مرافقي جريصاتي المحسوب على إحدى المرجعيات الزحلاوية التقليدية التي اختلفت مع "التيار"، فحاول إقفال المكتب لكنه لم ينجح، عندها رفع الأخوان اللذان يعملان في جهاز عون صورة الجنرال في الوزارة. وما تشهده وزارة العمل اليوم هو توزيع حصص وادوار بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحرّ"، على رغم بعض الاشكالات والتنافر الذي يحدث بينهما. وقد حاول أحد الامنيين التابعين للحزب تمرير إحدى الصفقات الكبيرة، لكن تمّ إقفاله.

بالعين المجرّدة
قد يكون الكلام عن المكتب مجرّد أقوال أو إشاعات، فكان من الضروري التأكد من صحة هذه المعلومات، خصوصاً أنّ دخول الوزارة لمجرّد إجراء معاملة بسيطة يتطلّب رشوة و"تمريرات" أو موظّفاً في الداخل يساعدك، فكيف الحال اذا ما كنت تطمح الى فتح مكتب لـ"استقدام العاملات في الخدمة المنزلية"!؟.

يوم الثلثاء توجّهنا الى وزارة العمل. لكن، للوصول الى الطابق السادس عليك صعود ثلاثة طوابق على الدرج، لتستقلّ بعدها المصعد الذي يسير حسب مزاجه.

تصل الى مدخل الطابق السادس، يسألك أحد الموظفين "كيف أساعدك؟"، وتقول له: "أريد فتح مكتب استخدام عاملات منزلية"،
فيرشدك الى الطابق الثاني لتطّلع على الشروط. لكنه "ولحسن الحظّ"، يتذكّر أنّ في مكتبه نسخة عن ورقة الشروط. يُدخلنا الى مكتبه وعند استفسارنا عن أسهل طريقة لتمرير المعاملات، يجيب: "هناك طريقتان، إما دفع رشاوى مالية ضخمة، وإما الاعتماد على واسطة سياسية قويّة".

عندها سألنا: "من أيّ منطقة أنتم وما هو انتماؤكم السياسي؟"، وعندما أجبنا "من المتن ونؤيّد "التيار الوطني الحر"، ضحك الموظف وهزَّ برأسه، قائلاً: "القصة سهلة. إمشوا معي الى مكتب "التيار". وهناك في مكتب "المستشار"، إستقبلنا رجل عضلاته مفتولة، أخبرناه ماذا نريد، فأجابنا: "بما انكم تنتمون الى "التيار"، سنساعدكم لأنّ العماد عون أصرّ على فتح هذا المكتب لخدمة محازبيه".

وبعد استفساره عن طلبنا بالتحديد، بدأ "التكسيد" بمهنة استقدام العاملات، ونصحنا بفتح شركة تنظيفات "لانّ استقدام الخادمات مربك". وبعد فترة لا بأس بها، تنبّهتُ الى أنني أتكلّم الّلهجة "الشماليّة" فيما أخبرته أنني من المتن. فاستدركتُ الأمر وأخبرته أنني من قضاء البترون لكنني اسكن منذ مدة في جديدة المتن.

عندها نصحني بالذهاب الى الوزير جبران باسيل لأنه الأقوى في "التيار"، "فنواب المتن في "التيار" من ابراهيم كنعان الى نبيل نقولا لا ينفعون. باسيل هو الأقوى، وقد استطاع تمرير 20 معاملة مخالفة لفتح مكاتب استقدام عاملات منازل على رغم أنّ القانون يمنع فتح مكاتب جديدة"، مؤكداً أنّ باسيل على "اتصال دائم بالوزير لأنه صديقه ويلبّي طلباته سريعاً، بينما كنعان لم يستطع تمرير معاملة واحدة".

وبعدما انتهى الحديث عن متطلبات العمل، طلب منا تحضير الأوراق ثمّ العودة، "وسنمرّر لك المعاملة لانك من "التيار". فإذا اردت اتمامها بمفردك ستكلفك 4000 دولار، بينما معنا ستدفع فقط 12 الف ليرة لبنانية بدل طوابع وبالتالي نوفّر عليك آلاف الدولارات".

نحّاس
لكن متى بدأ هذا المكتب عمله؟ وهل صحيح أنه كان موجوداً في عهد الوزير شربل نحاس؟ "المكتب لم يكن في عهدي"، هذا ما يجزمه نحاس... ويوضح لـ"الجمهورية": "بعد استلامي الوزارة، قدّم مستشارو النائب بطرس حرب استقالاتهم، فرفضتها، لأنّهم موظفو دولة وليسوا مع وزير لكنهم أصرّوا وتركوا الوزارة". ويعبّر نحاس عن سخطه من آداء جريصاتي، "الذي اوقف عدداً من المشاريع التي كانت تخدم العمال مثل زيادة الأجور وقانون دعم عمل الشباب اللبناني وغيرها من القوانين التي لم تمرّ لأنّ الوزير والحكومة لا يريدانها".

الوزارة الى الوراء
عند استلام حرب حقيبة العمل، حاول وضع خطة إصلاح متكاملة في الوزارة والمؤسسة الوطنية للإستخدام والضمان الإجتماعي. وطرح مشروع مكننة الوزارة لضبط الفساد وملء الشواغر وإعادة هيكلة المؤسسة الوطنية للإستخدام ورسم سياسة عمل جديدة.

أما في الضمان الإجتماعي، فوقّع اتفاقاً تاريخياً بين البنك الدولي ومنظمة العمل لأفضل نظام تقاعد للحماية الإجتماعية في لبنان. ونظّم أيضاً عمل اللاجئين الفلسطينيّين حسب مقتضيات الدستور، نظّم قطاع مكاتب الاستقدام، أعدّ مشروع قانون لتنظيم عمل العاملين في الخدمة المنزلية وأعاد هيكلة وصياغة تعديلات على قانون العمل وإعادة تنظيم تفتيش العمل، وقد أودع كلّ هذه المشاريع في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، لكنها لم تقرّ لأنّ الحكومة أُسقطت.أتى نحاس حاملاً رؤية خاصة، فضرب خطة حرب، أما جريصاتي فلم يأتِ بأيّ رؤية بل حاول تقليد حرب واحتفظ برئيس فريق عمله.

إدارة مترهّلة
إضافة الى الفساد الذي ازداد في وزارة العمل بعد فتح التيار العوني "مكتب خدمات" ، هناك شقّ يتعلق بالنقابات يديره المدير العام بالانابة عبدالله رزوق المحسوب سياسياً على الحزب "السوري القومي الاجتماعي".

ويروي المواطنون انه يتعامل بكيديّة، يسيّر المعاملات التي يرضى عنها ويعرقل البقية، وأنه يقف عائقاً في وجه الاصلاح، ويصنَّف كجزء من الادارة المترهلة، وهو يتابع ملفات وقضايا الكتل الموالية لخطّه السياسي، وقد وقف سابقاً في وجه محاولات التطوير كلّها بعد تلقيه نصائح من مؤسسات دولية بضرورة تطوير أدائه، لكنه يغرق في الروتين الإداري.

بعد كلّ هذا الكلام والفساد المكشوف وسياسة المحاسيب في وزارة العمل التي تُعتبر "البيضة التي تبيض ذهباً" للسماسرة والمافيات، يبقى السؤال: لماذا لا تتحرّك هيئة التفتيش وتكشف عن كلّ هذه المخالفات وتضع حدّاً لعرقلة معاملات المواطنين من جهة، وتُفقد الدولة عائدات هي في أمسّ الحاجة اليها؟

من جهتها أصدرت وزراة العمل بيانا حول ما نشر جاء فيه : صدر عن المكتب الاعلامي في وزارة العمل البيان الاتي :"نشرت احدى الصحف المحلية في عددها الصادر يوم الجمعة الواقع فيه 11 تشرين الاول 2013 تحقيقا تناول سير العمل في وزارة العمل، وهدف التحقيق الى انتهاج الاثارة في ان وزارة العمل ينخرها الفساد والمحسوبية السياسية وخصوصا في طابق الوزير.

ان وزير العمل سليم جريصاتي يعتبر ما ورد في هذه الصحيفة، لهذه الجهة، بمثابة إخبار برسم النيابة العامة التميزية".