حين يُسأل المسؤولون في «حزب الله» عما إذا كانوا يخشون من تداعيات التقارب بين واشنطن وطهران على وضع الحزب بل وعلى مستقبله، يقولون «ان دورنا لن ينتهي قبل ان تنتهي ازمة الشرق الأوسط». ولكن سبق للديبلوماسي الأميركي العتيق جورج بول ان نقل (في دمشق) عن هنري كيسنجر قوله: ان هذه الازمة ولدت مع الخليقة وتموت مع الخليقة.

استطراداً، يقول مسؤول الحزب ضمناً «باقون حتى يوم القيامة». ولكن هل يمكن للبنان ان يبقى حتى يوم القيامة؟

أوساط الحزب لا تزال تتعامل مع اميركا على انها اميركا. اعتبرت ان ادارة باراك اوباما هي التي تتنازل، وليس مرشد الجمهورية علي خامنئي حيث يقول معارضون ايرانيون انه بات يخشى من ان تفضي النتائج الضاغطة بل والهائلة للعقوبات الى اندلاع فورة اجتماعية ضد.. الثورة الايديولوجية!

الماكينة الدبلوماسية

على كل، يعتبر ان الكلام الاميركي - الايراني الآن هو حول البرنامج النووي لا اكثر ولا اقل، واي اتفاق لن يؤثر البتة في«حزب الله» لكن هذا يظل كلاماً، فثمة اسئلة واضحة ورمادية على وجوه قيادات الحزب التي تدرك تماماً ان الماكينة الديبلوماسية ان انطلقت فلن يبقى هناك من ملف خارج النقاش وحتى خارج التفاهم، والاميركيون يفضلون الصفقات الشاملة، وحين يتحدثون عن التزامهم المطلق بأمن اسرائيل، فهم لن يفاوضوا على تفكيك البرنامج النووي، كما طلب بنيامين نتانياهو، بل على وقف التخصيب عند حدود معينة، لكن تفكيك «حزب الله» يبقى أولوية أميركية.

والدليل ان ريتشارد ارميتاج، عندما كان نائباً لوزير الخارجية الأسبق كولن باول، قال «ان حزب الله هو فريق الارهاب الاساسي وان تنظيم القاعدة هو فريق الارهاب الاحتياطي»، كما لو انه يقول ان امن اسرائيل يتقدم على امن اميركا.

القيادة توقعت

لكن ما يتردد وراء الضوء ان طهران لم تطلع «حزب الله» على اعتزامها فتح صفحة جديدة مع واشنطن، هذا لا يعني ان قيادة الحزب لم تتوقع، ومنذ اختيار خامنئي لحسن روحاني رئيساً للجمهورية، ان تحوّلا ما سيحصل في اللغة السياسية الايرانية، وايضا في الاداء السياسي، ومع اعتبار ان نتائج العقوبات انعكست على الحزب نفسه الذي تراجع لديه مستوى «الرخاء» لتتركز المساعدات المالية على المسائل التي لها علاقة بالبنية العسكرية للحزب.

والواقع ان لا مجال لتجزئة السياسة الايرانية المستجدة، وهي حاصلة فعلاً، فحين يكون هناك تبدل في اللعبة السياسية لا بد ان يترافق ذلك مع تبدل في اللعبة الاستراتيجية.

الاحداث السورية كانت بمنزلة ضربة قاصمة على الظهر وربما على الرأس ايضا.

مثلما هو واضح للحزب ان سوريا لن تعود، في حال من الاحوال، كما كانت، واضح اكثر لطهران ان عليها ان تعيد النظر في رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة، وبعدما ترددت في الكواليس معلومات تقول ان روحاني ليس متحمساً لمسألة «الصراع مع اسرائيل»، فها ان ديبلوماسيين ايرانيين في عواصم مختلفة يقولون انه عندما تفاوض «فتح» على اللاشيء، وعندما تغرق «حماس» في الادغال والتضاريس العربية، متخلية عن ايران التي طالما امدتها بكل وسائل البقاء والمواجهة، فلماذا يفترض بالايرانيين ان يكونوا ملكيين اكثر من الملك.

تغيير النظرة إلى إسرائيل

هناك من يذهب في التفسير الى ما هو ابعد، فعندما يقول روحاني بالانفتاح على الولايات المتحدة، يدرك جيداً ان هذا الانفتاح يبقى من دون معنى او من دون مفعول اذا لم تتغير النظرة الايرانية الى اسرائيل. لا داعي لصيحات محمود احمدي نجاد القائلة بازالتها من الوجود، وللسخرية من الهوكولوست، وبصورة تجعل من يفسر هذه السخرية يعتبر ان نجاد يريد القول ان ادولف هتلر كان على حق.

على كل حال «حزب الله» منشغل في القتال في سوريا بعدما كان قد أوحى بأنه اذا ما اندلعت الحرب مرة اخرى، فسيقاتل على ارض الجليل، وثمة حديث عن ان الايرانيين مستعدون لسحب قوات «حرب الله» من سوريا مقابل سحب كل القوات الغريبة الأخرى، وبعدما لوحظ أن جيفري فيلتمان نفسه لم يعد يدعو الى خروج مقاتلي «حزب الله» فقط، بل يضيف الى ذلك عبارة «المقاتلين السنّة»، مثل هذا الكلام لم يكن يصدر عن مسؤولين اميركيين في السابق.

جحافل داعش

واذا كان النظام في دمشق مغتبطاً بالتقدم الكاسح لجحافل «دولة الشام والعراق» (داعش) على اكثر من جهة، وهي تبتلع «الجيش السوري الحر» والفصائل التابعة له، فهذه ليست حال «حزب الله»، الذي يدرك مدى الفاعلية الميدانية لتلك الجحافل، وكذلك مدى التعبئة الايديولوجية وعلى هذا الأساس، فالحزب يستعجل تسوية ما للوضع في سوريا حتى اذا ما حصل تفاهم ما بين واشنطن وطهران يمكن ان ينشأ مناخ جديد تنتج عنه «تسوية متوازنة» بطريقة أو بأخرى.

ولكن ما يمكن تأكيده الآن أن الحزب سحب مئات المقاتلين من العمق السوري من دون أن يُعرف سبب لذلك، وبعدما أشيع الكثير عن معركة «جبال القلمون» أي تفريغ المناطق السورية المتاخمة للحدود مع البقاع من المعارضة هذا لم يحدث، وحين يطرح السؤال حول السبب يقال إن «الجيش السوري الحر» في هذه المناطق متوجّس جداً من تقدم التنظيمات التابعة للقاعدة او القريبة منها في العديد من المناطق السورية، وهو يتخذ الاستعدادات لمواجهة اي احتمالات، مستنداً الى تضاريس جبلية معقدة والى اودية ساحقة تسمح له الصمود.

اعتراض البيئة الحاضنة

هذه تبقى مجرد تفاصيل. «حزب الله» حائر، فيما البيئة الحاضنة التي كانت تعترض على سياسة المواجهة مع اسرائيل من دون سائر الجهات والقوى الأخرى، تعترض الآن على التورّط في الأزمة السورية التي تجاوزت في تعقيداتها حتى سوريا نفسها.

ولكن إذا تخلى الحزب عن شعار «المقاومة» فأي قضية سيحملها وتبرر بقاءه، هنا السؤال الصعب في بلد شهد كل إشكال الموجات السياسية والعقائدية التي سرعان ما تتحول الى فقاعات وتختفي. «حزب الله» يخشى ان يتحول، بدوره الى فقاعة، وان تصل القفازات الحريرية، لا القبضات الحديدة الى رأسه، الايرانيون تعبوا كثيراً، ويفترض بالحزب أن يتفهم وأن يماشي سياسة التحول، ألم يتعب هو ايضاً؟

مصادر دبلوماسية في بيروت تقول إن تصفية الازمات في المنطقة، هذا اذا كانت الخطوات كما النوايا، جدية تحتاج إلى عشر سنوات، مدة كافية ليتغير المشهد اللبناني كنتيجة طبيعية لتغير المشهد الاقليمي، هل حقا أن «حزب الله» يخشى القفازات الحريرية أكثر مما يخشى القبضات الحديدية (التي تبرر بقاءه)؟ السؤال يكفي.