لعل أحد الدلالات الكبرى لبناء سد النهضة الإثيوبي تتمثل في إعادة صياغة ميزان القوى الإقليمي لمنطقة حوض النيل. 

ففي فبراير/شباط 2011، وبينما كانت مصر تشهد أعنف تحول يواجه نظام الحكم منذ نحو نصف قرن اتخذ رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي قرار بناء سد النهضة العملاق على النيل الأزرق بقدرة ستة آلاف ميغاوات.

ولا شك أن هذا القرار يعكس الصعود الإثيوبي في مواجهة التراجع المصري في الفضاء الإقليمي لحوض النيل.

وقد استمرت مكانة مصر الأفريقية في التراجع بعد الإطاحة بحكومة الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو/تموز 2013 وقيام الاتحاد الأفريقي بتعليق عضوية مصر بحسبان أن ما حصل هو انقلاب عسكري ضد نظام مدني منتخب وفق تعريف مجلس السلم والأمن الأفريقي.

لقد انكفأت مصر مرة أخرى على نفسها بعد أن أضحت ثورتها كالهرة تأكل أولادها فدخلت في دوامة من العنف وعدم الاستقرار، وهو ما دفع بأحد المسؤولين في رئاسة الجمهورية إلى القول بأن الدولة المصرية بحاجة إلى ثمانية أعوام حتى تستعيد أمنها القومي.

وفي المقابل فإن ما يثير الدهشة والاستغراب في آن واحد هو أن تقارير البنك الدولي تشير إلى أن منطقة أفريقيا جنوب الصحراء تمثل ثاني أسرع منطقة في العالم من حيث معدلات النمو بعد آسيا.

وتأتي على رأس الدول الأفريقية الصاعدة كل من أنغولا وإثيوبيا وغانا ونيجيريا ورواندا وتنزانيا. 

وقد فطنت هذه الدول إلى ضرورة تقليل اعتمادها على المساعدات الخارجية من خلال استغلال مواردها والتركيز على مجال التجارة والاستثمار ولا سيما في مشروعات الطاقة، وهنا يمكن فهم التوجه الإثيوبي نحو تبني إستراتيجية بناء السدود وإنتاج الطاقة الكهرومائية.

وسوف نحاول في هذا المقال استعراض أهم ملامح التقرير الذي أصدره معهد الدراسات التنموية في المملكة المتحدة عن التحولات الإستراتيجية في حوض النيل وذلك في أغسطس/آب 2013. 

ولا يخفى أن مآلات التحولات الكبرى في دول حوض النيل تشير إلى تهديدات خطيرة للأمن القومي المصري والعربي بشكل عام.


تحولات إستراتيجية فارقة 
لقد حدثت تحولات كبرى في المشهد الجيوإستراتيجي لدول حوض النيل وهو ما جسدته خريطة توازنات القوى الجديدة في المنطقة والتي شهدت صعودا إثيوبيا وتراجعا مصريا وسودانيا.

لقد بدأت دول المنبع وعلى رأسها إثيوبيا تروج لأهمية تبني معايير ومبادئ قانونية جديدة تتجاوز النظام القانوني السائد الموروث عن العهد الاستعماري، فإثيوبيا تعترض تماما على مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة أو مبدأ الإخطار المسبق في حالة القيام بأي مشروعات تنموية مائية في دول أعالي النيل. 

وقد ارتبط بهذا التحول في الفكر القانوني والمؤسسي المتعلق بالنظام القانوني الجديد لحوض النيل تحول مماثل في الخطاب السياسي الإثيوبي. 

وقد بات واضحا أن إثيوبيا تحت قيادة رئيس وزرائها الراحل ميليس زيناوي ترى ضرورة أن يكون الهدف من أي تعاون إقليمي بشأن حوض النيل هو "تقاسم المنافع المنصف" وليس مجرد "تقاسم المنافع".

وعليه فإن منطق إثيوبيا من وراء إنشاء السدود هو إنتاج الطاقة الكهرومائية بغرض بيعها لدول الجوار ولكي تكون جزءا من سوق أوسع للطاقة في حوض النيل.

تحولات الاستثمار والتنمية
لقد أدى دخول الصين وتمويلها العديد من السدود في كل من السودان (سد مروى) وإثيوبيا (سد تيكيزي) بالإضافة إلى مشروعات البنية التحتية الأخرى إلى حدوث تغير جذري في المشهد الاستثماري السائد في حوض النيل.

وقد فقدت مصر النفوذ الذي مارسته لفترة طويلة على القوى المانحة التقليدية مثل البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي. 

وعلى صعيد آخر مثل انفصال جنوب السودان وتوتر العلاقة بينه وبين شمال السودان بعدا آخر في مركب العلاقات المعقدة بين دول منابع النيل من جهة ودولتي المصب (مصر والسودان) من جهة أخرى.

على أن أحد التحديات الكبرى التي رافقت هذا التحول تمثلت في تغير الإدراك الدولي تجاه عملية بناء السدود الكبرى بالنظر إلى آثارها البيئية والاجتماعية، فقد أضحى التركيز اليوم منصبا على إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة والتأكيد على معايير التنمية النظيفة. 

ولعل هذا الخطاب هو الأكثر أهمية في الغرب فيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي وليس تأثيراته السلبية على دولتي المصب.

وعلى صعيد المطالب التنموية في دول أعالي النيل نلاحظ أنه منذ عام 2010 حدث تحول كبير في بنية التركيب السكاني لدول هذه المنطقة حيث مال ميزان القوة السكاني تدريجيا لصالح أعالي النيل.

وقد أضحى عدد أكبر من السكان يعيشون في دول المنبع مقارنة بعدد سكان كل من مصر والسودان مجتمعتين، وهو ما يعني تزايد حاجتهم للطاقة والوظائف والفرص الاقتصادية. 

ويكفي أن نشير للدلالة على هذا التحول الخطير أن عدد سكان إثيوبيا وحدها يصل إلى نحو (95) مليون نسمة مقابل (85) مليون نسمه يعيشون في مصر، ولعل هذا ما يبرر توجه إثيوبيا ودول منابع النيل صوب إنشاء السدود بغرض إنتاج الطاقة الكهرومائية.


سيناريوهات المستقبل
يطرح التقرير أربعة مسارات لمآلات الأوضاع في حوض النيل قياسا على عملية اكتمال بناء سد النهضة من عدمها.

الأول: يشير إلى استمرار الوضع السابق حيث من المحتمل ألا تستطيع إثيوبيا تمويل عملية البناء محليا أو تعجز عن توفير الدعم الخارجي اللازم من الجهات الدولية المانحة. 

وفي هذه الحالة لا يتم اكتمال بناء السد وتكون مصر قد تعافت من عثرتها واستطاعت حشد مواردها الدبلوماسية والسياسية وغيرها لمنع إثيوبيا من إكمال عملية بناء سد النهضة. 

بيد أن معادلات القوة الإقليمية في دول حوض النيل وطبيعة التفاعلات الدولية السائدة بالإضافة إلى النهوض الاقتصادي في إثيوبيا تجعل من غير المرجح حدوث هذا السيناريو.

أما السيناريو الثاني فهو يشير إلى حدوث حالة من الحرب الباردة بين إثيوبيا ومصر في حالة اكتمال بناء سد النهضة في السنوات الخمس المقبلة، وهو الأمر الذي يمكن إثيوبيا من إنتاج طاقة كهرومائية هائلة. 

وسوف تظل الحكومة المصرية في مرحلة ما بعد الإخوان المسلمين معادية تماما لسد النهضة في الوقت الذي تحقق فيه إثيوبيا مكاسب هائلة من خلال بيع الطاقة للسودان وغيرها من دول شرق أفريقيا.

بيد أن مكمن الخطورة في هذا السيناريو يتمثل في إلغاء مبادرة حوض النيل وإمكانية قيام أوغندا ودول المنبع الأخرى بإنجاز مشاريع الطاقة الخاصة بها بشكل منفرد ومستقل (مثال ذلك شلالات كاروما التي تمولها الصين). 

وفي هذه الحالة تشعر مصر بتهديد متزايد لأمنها القومي بيد أنها لا تستطيع القيام بعمل عسكري نتيجة الدعم الأميركي والغربي لإثيوبيا، الأمر الذي قد يدفع بها لقبول التحكيم الدولي. 

ولعل هذا السيناريو هو الأرجح احتمالا نظرا لطبيعة موازين القوى السائدة اليوم في منطقة حوض النيل وانشغال مصر بأزمتها السياسية والمجتمعية الخانقة.

السيناريو الثالث: تكاملي حيث من المحتمل ألا تتأثر دول المصب سلبا ببناء سد النهضة، وهو ما يدفع إلى حوار جاد بين مصر وإثيوبيا لدعم التكامل الاقتصادي بينهما وإقامة إدارة مشتركة للسدود بدءا من سد النهضة وانتهاء بالسد العالي. 

ويمكن أن تصبح مصر في هذه الحالة جزءا من منظومة السوق المشتركة لشرق أفريقيا، وعلى الرغم من معقولية هذا السيناريو باعتباره الأكثر تفاؤلا إلا أنه الأقل احتمالا.

أما السيناريو الرابع والأخير فإنه يشير إلى إمكانية ظهور نظامين قانونين لدول حوض النيل حيث تسعى دول المنبع إلى استكمال مشروعاتها التنموية من خلال مبادرة حوض النيل مع سعيها للحصول على الدعم الخارجي من قبل القوى المانحة غير التقليدية. 

أما مصر فسوف تجد نفسها مضطرة للتفاوض مع كل من أوغندا ودولتي السودان ربما لتقليل حجم الخسائر المتوقعة ولاحتواء الغضب الشعبي، وهذا النظام القانوني الثنائي قد يفضي على المدى الطويل إلى أي من السيناريوهات الثلاثة السابقة.

ما العمل إذن؟ لقد نسي المصريون سد النهضة وانشغلوا بحرب أخرى في الداخل حتى خفتت أو كادت أن تصمت لغة الخطاب "التصارعي" الذي تبنته حكومة الرئيس المعزول محمد مرسي تجاه إثيوبيا. 

ولعل الموقف السوداني سواء المخفي منه أو المعلن لا يصب في صالح مصر على الإطلاق، حيث بات واضحا أن الحكومة السودانية تنأى بنفسها عن الموقف المصري وترى أن سد النهضة في مصلحتها لأنه يحد من تراكم الطمي ويحسن من قدرتها على التحكم في فيضانات النيل.

ليس من مفر إذن أمام المصريين سوى التوحد جميعا في مواجهة هذا الخطر القادم من الجنوب، ولعل استدعاء هذا الخطر المشترك قد يخفف من غلواء الانقسام السياسي ويساعد على صياغة رؤية إستراتيجية جديدة للتعامل مع أزمة المياه. 

ويمكن في هذا السياق لمؤسسات الدولة الراسخة وعلى رأسها المؤسستان الأمنية والدبلوماسية استخدام كافة ما لديها من موارد لوقف أي تهديد محتمل لمصر من جراء إكمال بناء سد النهضة الإثيوبي