أجلسُ الآن في جلسة ٍلأبي،
كان غادرَها لينامَ هناك على تلّة الموت ِ،
قرْبَ الذين أساؤوا ـ بمعظمهمْ ـ فهْمَهُ.
وهْو كان يظنُّ الحياةَ لنُحْسِنَ لا لنُسيءَ،
لنسْعى إلى الفهْم،
أو لنُجيدَ التوغُّلَ في الوهْم ِ...
غادرَ جلستَهُ، فإذا بي أنا جالسٌ،
لستُ أدري : أأنظرُ، أم هو ينظرُ، أم نحن ننظرُ؟
ماذا نرى الآن؟
كيف أفكِّرُ، كيف يفكِّرُ واحدُنا، من يفكِّرُ منّا؟
هل تغيَّرَ شيءٌ هنا أو هنالك،
أو في عوالِمَ لسْنا نراها؟
شُجيْرةُ جوْز ٍتُظلِّلُني، هي كانت تُظلِّلُهُ.
برْكةُ الماء، ها هي تضحكُ لي،
وهْو كان يزيِّنُها بين حين ٍوآخَرَ،
كان يغيِّرُ ألوانَ جدرانها،
ويعالجُ نافورةً تتوثّبُ فيها.
صنوفٌ من الزهْر حوْلي، هو اختارَها،
كان يغرسُها، ويُتابعُها وهْي تنمو بعيْنيْه ِ،
فيما أنا كنتُ أعبرُ مسْتعجلاً،
لستُ أدري إلى أين كنتُ أروحُ وأتركُهُ...
أجلسُ الآن في جلسة ٍلأبي،
وأُحدِّقُ في نقطة ٍقرْبَ هذا الجدار الذي هزَّ عِطْفاً لهُ.
ربّما هي لا غيرُها،
نقطةٌ كانَ حدّقَ فيها مراراً.
ربّما هي لا غيرُها،
كانَ حدّقَ فيها أبي وهْو يجلسُ في جلستي،
وهْي جلستُهُ عندما كنتُ أعبرُ مسْتعجلاً...
أجلسُ الآن وحْدي،
كما كان يجلسُ في كلِّ يوم ٍ.
أقولُ لنفسي : حديقتُنا هذه مهْدُنا
(وأبي ربّما قال ذلك أيضاً)
أقولُ هي الحضْنُ والحصنُ، والأصْلُ والفرْعُ،
هذي حديقتُنا حيث عِشْنا،
وظلّتْ تعيشُ بِنا،
أينما قَذَفتْنا همومٌ وشطّتْ بِنا سُبُلٌ...
أجلسُ الآن وحْدي،
أبي جالسٌ وحْدَهُ،
ويقولُ... أقولُ : حديقتُنا مهْدُنا.
وهْي ليستْ على الأرض ِ،
بل هي تعلو،
وتذهبُ في كلِّ أُفْق ٍ.
حديقتُنا هي برْقٌ يوجِّهُنا،
هي برْقٌ يُكبِّلُنا، أو يُحرِّرُنا...
وحْدَنا الآن في جلسة ٍلأبي.
وحْديَ الآن في جلسة ٍلأبي.
وحْدَهُ الآن في جلستي.

ـ 2 ـ

قرْبَ هذي الشُّجيْرة ِبئرٌ مُعَمِّرةٌ.
هي صدْرُ الحديقة ِ،
جَدٌّ لنا ربّما شاءَها، عندما شادَها،
أنْ تكونَ مياهاً لأسرارنا حين تعلو على السُّحُب ِالعاليات ِ،
تُرى، كم تعاقبَ من سُحُب ٍ،
وترقرقَ في بئرنا من مياه ٍ؟
تُرى، كم تسرَّبَ من بعض أسرارنا في عُروق الشَّجَرْ؟
أجلسُ الآن بين الشجيْرة ِوالبئر ِ،
هذا أبي جاء من تلّة الموت ِ،
جلستُنا انعقدتْ،
وستبقى غداً حين أمضي إلى تلّة ِالموت ِ،
أمضي... وتبْقى، وتعلو،
وتذهبُ في كلِّ أُفْق ٍ،
وتجمعُنا دائماً،
ربّما تتغيَّرُ بعضُ الصُّوَرْ.
غيرَ أنّ حديقتَنا ستظلُّ احتفاءً بجلستنا،
ستظلُّ احتفاءً بها جارياً في عُروق الشّجَرْ. جودت فخر الدين