ولد نيلسون مانديلا في 18 يوليو عام 1918م، في أحد الأكواخ الطينية بمنطقة ترانسكاي في جنوب أفريقيا، ومنذ ولادته بدأ يعاني من التمييز العنصري بين البيض والسود، الذي كان السمة الرئيسة لهذه البلد في تلك الأيام، وكونك أسودًا في هذه البلاد يعني أنك سوف تسكن في مناطق لا يسكن فيها سوى السود، وسوف تركب مواصلات لا يركبها سوى السود، وسوف تذهب إلى مدرسة لا يذهب إليها سوى السود، وإذا كبرت وأصبحت رجلًا سوف تقف في طابور الحصول على عمل لا يقف فيه أيضًا سوى السود، وإذا تجولت ليلًا أو نهارًا، فستجد من يوقفك، ويأمرك بإخراج تصريح مرورك، وإلا تعرضت للاعتقال، وأنك مواطن من الدرجة الثالثة أو الرابعة في هذه البلد، التي تعيش فيها والتي هي بلدك أصلًا، إنها بلدك ولكنك لا تستطيع أن تتملك فيه، أو تدخل برلمانه، أو يكون لك دور في المشاركة في وزارته؛ لأنك أسود.

 ولد نيلسون مانديلا في هذه الأجواء، وعندما بلغ سن السابعة، ألحقه والده بإحدى المدارس، وبعد عامين مات أبوه، فأخذته أمه إلى أحد أقارب الأب، الذي كان بمثابة نائب ملك شعب الثيميو، الزعيم جونجينتابا، وقد تربى مانديلا في رعايته.

وتبلورت رسالة ورؤية مانديلا في نفسه وعقله بعد حفل الختان الجماعي، الذي كان يتم وفق طقوس وعادات قبلية لجميع ذكور القبيلة، الذين أتموا السادسة عشرة، وفي هذه الحفلة وقف أحد الزعماء المعروفين في القبيلة يتحدث إلى رجال المستقبل، وقد تكلم بكلمات ألهبت نار التحدي في نفس مانديلا بعد ذلك لأكثر من خمسين عامًا، حيث قال الرجل: (ها أنتم تجلسون يا أولادنا الشباب الأصحاء، زهرة أمتنا وفخرها ورجاءها، ورغم الآمال الكبيرة التي تشعرون بها، وأنتم على أعتاب الرجولة، فإنها آمال خاوية وهمية، ولن تتحقق أبدًا، حيث أن شعبنا وجميع الشعوب السوداء في جنوب إفريقيا شعب مهزوم، إننا عبيد في أوطاننا، ومستأجرون في أملاكنا وأراضينا، وليست لدينا القوة أو السلطة، ولا نسيطر على أقدارنا في الأرض التي أنجبتنا، إن أجسادنا وأرواحنا تضيع في المناجم والحقول؛ كي ينعم الرجل الأبيض بالصحة والرخاء، ولذلك سوف تتلاشى آمالكم وطموحاتكم؛ حيث أننا لا نستطيع منحكم أفضل الهبات، وهي الحرية والاستقلال).

وبالرغم من الذهول الذي أصاب مانديلا من جراء هذه الكلمات، إلا أنها كانت كالبذرة التي سرعان ما أخذت تنمو في وجدانه، فلقد أصبحت رسالته في الحياة هي تحقيق الحرية، وأضحت رؤيته أن يرى بلده بلدًا دون تمييز عنصري، يتمتع فيها الرجل الأبيض والأسود بحقوقهما على السواء، وبدأ يسير في خطة مرحلية؛ لتحقيق هذه الرؤية، على خطوات وهي:

الخطوة الأولى: إلى جوهانسبرج

وبدأ السير الفعلي في خطته، حينما هاجر إلى جوهانسبرج عاصمة جنوب أفريقيا، وهناك بدأ الخطوة الأولى، وهي استكمال تعليمه الجامعي، وحتى يتمكن من ذلك، فقد عمل في وظيفة كتابية في إحدى الشركات، وفي الوقت ذاته استكمل تعليمه الجامعي، فحصل على شهادة الليسانس في القانون عام 1942م.

الخطوة الثانية: مناهضة العنصرية.

وهي المرحلة التي انضم إلى المؤتمر الوطني الإفريقي، وهو أقدم تجمع وطني إفريقي ينص دستوره على معارضة العنصرية.

ثم بدأ الممارسة الفعلية للمعارضة ضد العنصرية، وكانت بداية ذلك في أغسطس عام 1943م، حينما شارك لأول مرة في حياته في مسيرة ضمت عشرة آلاف إفريقي؛ احتجاجًا على زيادة سعر ركوب السيارات العامة المخصصة للإفريقيين، وبعد مقاطعة هذه السيارات لتسعة أيام متواصلة، اضطرت الشركة المالكة إلى خفض الأسعار؛ مما جعل مانديلا يتأثر تأثرًا شديدًا بهذه المسيرة

الخطوة الثالثة: المشاركة في العمل السياسي

وهي مرحلة التهيؤ للتميز في العمل السياسي، حيث التحق بجامعة ويتووتر سراند؛ للحصول على شهادة تؤهله للعمل في المحاماة، وفي هذه المرحلة أيضًا أصبح لمانديلا دور بارز في العمل السياسي، وصار له شأن كبير في المؤتمر الوطني الإفريقي، حيث أصبح أحد أربعة نواب لرئيس الحزب، وبالإضافة لعمله السياسي كان يدافع عن قضايا الإفريقين أمام محاكم البيض

الخطوة الرابعة: المقاومة الإيجابية ضد الاحتلال

وبدأت عندما استولى البيض على مدينة صوفيا تاون إحدى المدن المخصصة للسود طبقًا لقوانين الفصل العنصري، حتى تم القبض عليه في ديسمبر 1956م، ثم أطلق سراحه نظرًا لعدم توافر الأدلة على إدانته، ثم خضع مانديلا لاتهامات عديدة، والتي انتهت إلى الحكم عليه عام 1964م بالسجن مدى الحياة، هو وسبعة آخرين؛ ليبدأ مرحلة جديدة، وهي مرحلة الصمود، وفي جزيرة روبن البعيدة أمضى مانديلا 18 سنة في تقطيع الأحجار، وفي عام 1982م تم نقله إلى سجن بولز مور في مدينة كيب تاون.

وكانت الإغراءات قد بدأت تمارس دورها معه؛

للإفراج عنه مقابل إعلانه نبذ العنف وبراءته من أعمال المؤتمر الوطني الإفريقي، وفي الوقت الذي انهار زملاء له أمام هذه الإغراءات، رفض مانديلا التنازل عن مبادئه، وما أعلنه أمام المحكمة من استعداده لموت في سبيل تحقيق هدفه، وهو ميلاد جنوب أفريقيا حرة خالية من نظام الفصل العنصري.

وبدلًا من أن يكون سجن مانديلا راحة للرجال البيض، فقد تحول إلى كابوس بالنسبة لهم ففي 18 يوليو من كل عام في ذكرى مولده، يجتمع ملايين السود للتظاهر في أنحاء البلاد في الوقت الذي يشاركهم كل السود في أنحاء العالم، وهكذا أصبح مانديلا رمزًا للحرية في جنوب أفريقيا، وانتشر اسمه في أنحاء العالم رغم أن صورته لم يعد يراها أحد منذ عام 1964م.

الخطوة الأخيرة: الإصرار والصبر

واحتاج الأمر إلى 28 عامًا أمضاها مانديلا وراء القضبان قبل أن يخرج ويرى نور الحياة، وفي عام 1990م تم الإفراج عنه، وكان التصور أنه سيخرج بقلب مليئ بالكراهية والحقد، والتطلع للثأر، ولكن العالم فوجئ بوجهه الطيب وكلماته، حيث كان قد دخل في مرحلته الأخيرة؛ لتحقيق رؤيته ألا وهي جمع الشعب على التوحد، لقد كان البيض يراهنون على فشل السود الذين تعددت أحزابهم في التوحد، وعلى أن خلافاتهم ورغباتهم في التزعم سوف تمزقهم، ولكنهم فوجئوا باتفاق 26 رئيس حزب في جنوب إفريقيا على إجراء الانتخابات يوم 27 أبريل 1994م، ولأول مرة في تاريخ جنوب إفريقيا، يدخل رجل أسود في اللجنة الانتخابية؛ ليدلي برأيه، وكان الفائز كما كان متوقعًا هو نلسون مانديلا، الذي أصبح رمزًا وأسطورة يعرفها الملايين في أنحاء الدنيا.....