الأحد المقبل تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بـ"عيد العنصرة"، ذكرى حلول الروح القدس على التلاميذ بعد خمسين يوماً من قيامة المسيح من بين الأموات، حين "ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار فاستقرّت على كلّ واحد منهم. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس..." (أعمال الرسل 2، 3-4). وقد اعتبرت الكنيسة المقدّسة أن يوم العنصرة هو يوم انطلاق دعوتها إلى تبشير المسكونة قاطبة.
عندما تحتفل الكنيسة بالأعياد لا تحتفل بأحداث ووقائع جرت في الزمن الغابر وانتهت بانتهائها، بل هي تستحضر الأحداث إلى زمننا الحاضر وتحياها كأنها حاصلة "الآن وهنا". ويسعنا القول، في هذا السياق، إن هذه الأحداث لا تقتصر مفاعيلها على الذين أعطي لهم أن يشاركوا فيها، بل تطاول كل المؤمنين في كل زمان ومكان.
من هنا، ليست العنصرة حدثاً صار منذ نحو ألفي عام فحسب، بل هي مستمرّة في كلّ مرّة تجتمع الكنيسة متحلّقة حول سيّدها ورأسها يسوع المسيح. فصلاة استدعاء الروح القدس لا تغيب عن الصلوات التقديسية التي تقيمها الكنيسة مجتمعة، ولا سيما في المعمودية والقداس الإلهي. فالروح القدس هو الذي يرافق الكنيسة في مسيرتها الأرضية نحو الكمال في الحياة الأبدية. العنصرة، إذاً، ليست حدثاً منعزلاً في التاريخ يعيّد المسيحيون لذكراه، بل هي حياة الكنيسة الدائمة، هي تذوّق مسبق للملكوت الآتي.
الروح القدس في عنصرته الدائمة يرافق المؤمنين، ما داموا أوفياء، طوال حياتهم بدءاً من المعمودية. ففي خدمة المعمودية يستدعي الكاهن الروح القدس على الماء قائلاً: "فأنت إذاً أيها الملك المحبّ البشر احضر الآن بحلول روح قدسك وقدّس هذا الماء". ثمّ يدهن الكاهن المعمّد، بعد تغطيسه، بالميرون المقدّس قائلاً: "ختم موهبة الروح القدس". وموهبة الروح القدس ليست، وفق اللاهوت الأرثوذكسي، سوى الروح القدس نفسه، لا بعضه ولا طاقة فائضة منه. هكذا تكون المعموديّة العنصرة الشخصية للمعمّد الجديد.
والقداس تحياه الكنيسة وتدركه عنصرة دائمة، فخادم القداس يستدعي الروح القدس "علينا (على الحاضرين) وعلى هذه القرابين الموضوعة (الخبز والخمر)". هذا الاستدعاء ليس مقتصراً على تحويل الخبز رمزياً إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه، بل يسبقه حلول الروح القدس "علينا"، أي على المشاركين في القداس كي يصيروا بتناولهم القرابين جسداً واحداً رأسه المسيح المخلّص. الروح القدس الذي أنشأ الكنيسة يوم العنصرة، هو نفسه يجدّد تأسيسها في كل اجتماع للمؤمنين.
يستمدّ المسيحيون القوّة من الروح القدس كي يشهدوا الشهادة الحق. فالمسيح وعدهم بأنّهم سينالون قوة من العلاء هي "قوّة الروح القدس الذي يحلّ عليكم، فتكونون لي شهوداً إلى أقصى الأرض" (أعمال الرسل 1، 8). العنصرة هي التي أمدّت الرسل بالشجاعة لإعلان البشارة الجديدة، فانطلقوا سيراً على الأقدام، وواجهوا أخطار السفر في البحر والوعر والجبال والأودية، وقبلوا الاستشهاد ببطولة فائقة غير آبهين بأنفسهم. كان هاجسهم الوحيد تبليغ الرسالة الخلاصية إلى كل ساكن على هذه البسيطة.
آمن الرسل وصدّقوا قول الرب بأنه سيكون معهم دائماً ولن يتخلّى عنهم مهما جارت الظروف وقست عليهم: "ها أنا معكم كلّ الأيام إلى منتهى الدهر" (متّى 28، 20). لم يستمرّ الوجود المسيحي في بلادنا بفضل قوة أرضية أو سلطة زمنية، بل بفضل الروح القدس، بفضل العنصرة الدائمة.