في يوم العاشر من جمادي الثاني سنة 1320هـ.ق الموافق للثلاثين من شهريور عام 1281هـ.ش (24 أيلول 1902م) رأى النور في هذا العالم رجل كبير اسمه روح الله الموسوي الخميني، ولد لعائلة من أهل العلم والهجرة والجهاد من ذرية السيدة الزهراء الطاهرة (سلام الله عليها)، وذلك في مدينة خمين من توابع المحافظة المركزية في إيران.

ورث روح الله سجايا آبائه وأجداده الذين عملوا جيلاً بعد جيل في إرشاد الناس وهدايتهم وتحصيل العلوم والمعارف الإلهية، فكان والده الجليل المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي من معاصري المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رض) وقد أمضى عدة سنين في النجف الأشرف للاستزادة من العلوم والمعارف الإسلامية نال إثرها درجة الاجتهاد وقفل راجعاً إلى إيران فأقام في خمين ليكون هناك ملاذاً للناس ومرشداً وهادياً لهم في شؤونهم الدينية.

الهجرة إلى قم، الدروس التكميلية، وتدريس العلوم الدينية

بعد فترة من هجرة آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (رحمة الله عليه) إلى مدينة قم في النيروز من عام 1300 هـ.ش (1921م) الموافق لرجب المرجب سنة 1340هـ.ق، توجه الإمام الخميني بدوره إلى الحوزة العلمية في قم، واجتاز بسرعة مراحل الدراسات التكميلية في العلوم الدينية لدى أساتذة تلك الحوزة، و يمكن الإشارة هنا إلى دراسته تتمة مباحث كتاب »المطول« في علم المعاني والبيان على يد المرحوم آقا ميرزا محمد علي أديب تهراني، وتكميل درس السطوح عند المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخوانساري، ومن قبله المرحوم آية الله السيد علي يثربي كاشاني، ودروس الفقه والأصول عند زعيم حوزة قم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (رضوان الله عليهم أجمعين). بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزدي، أثمرت جهود الإمام الخميني وثلة من المجتهدين في حوزة قم العلمية، فتوجه آية الله العظمى السيد حسين البروجردي (رض) إلى قم زعيماً لحوزتها العلمية. في ذلك الحين كان الإمام الخميني أحد الأساتذة والمجتهدين المعروفين الضالعين في الفقه والأصول والفلسفة والعرفان والأخلاق، إذ درّس طوال سنوات متمادية دورات عديدة من الفقه، والأصول، والفلسفة، والعرفان، والأخلاق الإسلامية في الفيضية، ومسجد أعظم، ومسجد محمدية، ومدرسة الحاج ملا صادق، ومسجد سلماسي، و... كما درّس الفقه ومعارف أهل البيت على أرفع المستويات طوال 14عاماً في مسجد الشيخ الأعظم الأنصاري (ره) في النجف الأشرف، وفي النجف أيضاً طرح لأول مرة المرتكزات النظرية للحكومة الإسلامية ضمن سلسلة دروس ولاية الفقيه.

في خندق الكفاح والنهضة

كان لروح الكفاح والجهاد في سبيل الله جذورها في الرؤية العقيدية والتربوية والبيئة العائلية والظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها الإمام الخميني طوال فترة حياته. إنطلق نشاطه النضالي منذ فترة شبابه الأولى وتكامل بتكامل أبعاد شخصيته الروحية والعلمية من ناحية، وتطور الواقع السياسي والاجتماعي في إيران والمجتمعات الإسلامية من ناحية ثانية. وكانت لائحة الولايات والإمارات التي أطلقتها الحكومة الإيرانية في سنة 1961 و1962م فرصةً مناسبة ليمارس الإمام الخميني دوره في قيادة الثورة وعلماء الدين، وبهذا اندلعت انتفاضة الشعب وعلماء الدين الشاملة في 15 خرداد 1342ش (5/6/1963م) بسمتيها البارزتين: قيادة الإمام الخميني الواحدة، وإسلامية شعاراتها ودوافعها وأهدافها، وكانت بدايةً لفصل جديد من كفاح الشعب الإيراني الذي عرف في العالم لاحقاً باسم الثورة الإسلامية.

يسرد الإمام الخميني ذكرياته عن الحرب العالمية الأولى حينما كان حدثاً في الـ 12 من عمره فيقول: »أتذكر كلا الحربين العالميتين... كنت صغيراً لكنني في المدرسة، وكنت أرى الجنود الروس في نفس المركز الذي كنا نرتاده في مدينة خمين، وكنا عرضة للهجوم والعدوان في الحرب العالمية الأولى«.


وحل شهر المحرم ليصادف شهر خرداد من عام 1342ش، فاستثمر الإمام الخميني هذه الفرصة لإثارة الشعب ضد نظام الاستبداد الشاهنشاهي، ففي عصر يوم عاشوراء 13 خرداد سنة 1342ش (3/6/1963م) ألقى الإمام كلمته التاريخية التي اشعلت شرارة انتفاضة 15 خرداد، وقال فيها بصوت عال يخاطب الشاه: »أنا أنصحك يا سيد، أيها السيد الشاه، يا حضرة الشاه، أنا أنصحك أن تقلع عن هذه الأعمال، إنهم يخدعونك يا سيد. أنا لا أرغب أن يرفع الجميع أيديهم بالشكر إذا أرادوا أن تسقط وتغادر... إذا أملوا شيئاً وأعطوه لك وقالوا لك اقرأه ففكّر فيه قليلاً... إسمع نصيحتي... ما العلاقة بين الشاه وإسرائيل حتى يقول مجلس الأمن: لا تذكروا إسرائيل بسوء... وهل الشاه إسرائيلي؟! «

أصدر الشاه أوامره بإخماد الانتفاضة. بدايةً، أُلقي القبض على عدد كبير من أنصار الإمام الخميني ليلة 14 خرداد، وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل (فجر الخامس عشر من خرداد) حاصر المئات من قوات الكوماندوز الموفدين من طهران منـزل الإمام وألقوا القبض عليه وهو يصلي صلاة الليل، ونقلوه إلى طهران ليسجن في معتقل نادي الضباط، ثم نقلوه غروب ذلك اليوم إلى سجن (قصر). وكان أن وصل نبأ اعتقال قائد الثورة إلى طهران ومشهد وشيراز وسائر المدن صبيحة يوم 15خرداد فسادتها أجواء مماثلة لأجواء قم. يروي الجنرال حسين فردوست أحد أقرب الندماء الملازمين للشاه في مذكراته أنهم أستخدموا تجارب وخدمات خيرة العناصر السياسية والأمنية الأمريكية لقمع الانتفاضة، ويتحدث كذلك عن الاضطراب الذي خيّم على الشاه والبلاط وأمراء الجيش والسافاك في هذه الساعات، وأوضح في مذكراته كيف أن الشاه وجنرالاته كانوا يصدرون أوامر القمع كأنهم مجانين. بعد 19 يوماً من اعتقاله في سجن (قصر) نقل الإمام الخميني إلى مقر (عشرت آباد) العسكري. وباعتقال قائد النهضة وارتكاب المجازر الوحشية ضد الجماهير في يوم 15 خرداد 1342ش، كانت الانتفاضة قد أُخمدت على ما يبدو. إمتنع الإمام الخميني في السجن عن الإجابة على أسئلة المحققين بكل شجاعة وبإعلانه أنه يعتبر الهيئة الحاكمة في إيران وسلطتها القضائية غير قانونية وتفتقر للصلاحية. في مساء 18/1/1343ش (7/4/1964م) أطلق سراح الإمام دون سابق إشعار ونقل إلى قم، وبمجرد أن علمت الجماهير بالنبأ عمت الفرحة كل أرجاء المدينة وأقيمت احتفالات كبرى في المدرسة الفيضية وأماكن أخرى تواصلت لعدة أيام. وبعد فترة تم إحياء الذكرى الأولى لانتفاضة 15 خرداد بإصدار بيان مشترك للإمام الخميني وباقي مراجع التقليد وبيانات منفصلة أخرى أصدرتها الحوزات العلمية أعلن فيها هذا اليوم يوم عزاء عام. في يوم 4 آبان 1343ش (26/10/1964م) أصدر الإمام الخميني بياناً ثورياً كتب فيه: »لتعلم الدنيا أن كل مشكلة يعاني منها الشعب الإيراني والشعوب المسلمة إنما هي بسبب الأجانب وعلى رأسهم أمريكا. الشعوب المسلمة تكره الأجانب عموماً وأمريكا على الخصوص... أمريكا هي التي تدعم إسرائيل وأنصار إسرائيل. أمريكا هي التي تقوّي إسرائيل كي تشرِّد العرب المسلمين«. الحقائق التي كشفها الإمام للناس ضد لائحة الكوبيتولاسيون (الحصانة القضائية) وضعت إيران في آبان سنة 1343ش (خريف 1964) على أعتاب انتفاضة ثانية. في فجر 13 آبان 1343ش (4/11/1964م) هجمت قوات الكوماندوز الموفدة من طهران مرة ثانية على بيت الإمام الخميني في قم وحاصرته. والعجيب أن ساعة الاعتقال صادفت كما في المرة السابقة وقت تضرع الإمام وعبادته الليلية. اعتقل الإمام الخميني ونقلته قوات الأمن مباشرة إلى مطار مهرآباد في طهران، وأقلته من هناك طائرة عسكرية أعدت من قبل إلى العاصمة التركية أنقرة برفقة عناصر من الأمن والعسكر.
 

نفي الإمام الخميني (ره) من تركيا إلى العراق

في يوم 13 مهر 1344ش (5/10/1965م) توجه الإمام الخميني بصحبة ابنه آية الله السيد مصطفى الخميني من تركيا إلى منفاه الثاني في العراق. بعد وصول الإمام الخميني إلى بغداد سارع لزيارة مراقد الأئمة الأطهار (ع) في الكاظمية وسامراء وكربلاء، لينتقل بعد أسبوع إلى محل إقامته الرئيس في مدينة النجف الأشرف. فترة إقامة الإمام في النجف التي استمرت 13 عاماً ابتدأت في ظروف مع إنها لم تسجِّل ضغوطاً وقيوداً واضحةً من قبل إيران وتركيا على الإمام الخميني، لكن المعارضات والمشاكسات والغمز واللمز لا من قبل جبهة الأعداء الحقيقيين بل من قبل المتمظهرين بلباس رجال الدين وطلاب الدنيا المتسترين بأزياء العلم والحوزة كان قد أتسع وتفاقم إلى درجة أن الإمام رغم كل ما أوتي من صبر واحتساب اشتهر بهما ذكر ظروف الكفاح في تلك الأعوام بكل مرارة. إلا أن أياً من هذه الصعاب والمحن لم تتمكن من ثنيه عن المسار الذي اختاره بكل وعي. بدأ الإمام دروس البحث الخارج في الفقه رغم كل الاعتراضات والعراقيل التي افتعلتها العناصر المغرضة بتاريخ آبان 1344ش (11/1965م) في مسجد الشيخ الأنصاري (ره) بالنجف الأشرف، واستمرت هذه الدروس حتى مغادرته العراق إلى باريس. وكانت دروسه من أبرز وأفضل الدروس نوعياً وكمياً في حوزة النجف. منذ بداية وصوله إلى النجف بعث الإمام الخميني رسائل ونواباً إلى إيران كي يحافظ على تواصله مع المجاهدين والمعارضين وكان يدعوهم في كل مناسبة إلى الصمود في متابعة أهداف ثورة 15 خرداد. طوال كل فترة النفي التي حفلت بشتى صنوف المحن والمرارات لم يتخل الإمام عن الكفاح والنضال إطلاقاً وأبقى الأمل بالانتصار حياً في القلوب عبر ما كان يوجهه من نداءات وما يلقيه من خطابات. في حوار له مع ممثل منظمة فتح الفلسطينية بتاريخ 19 مهر 1347ش (11/10/1968م) شرح وجهات نظره حول قضايا العالم الإسلامي وجهاد الشعب الفلسطيني وأفتى في هذا الحوار بوجوب تخصيص مقدار من أموال الزكاة للمجاهدين الفلسطينيين.

في مطلع سنة 1348ش (آذار 1969م) تفاقمت حدة الخلافات بين نظام الشاه وحزب البعث في العراق حول الحدود المائية بين إيران والعراق فأخرج النظام العراقي عدداً من الإيرانيين المقيمين في العراق بأساليب وظروف جد سيئة، وحاول حزب البعث كل جهده أن يستغل عداء الإمام الخميني للنظام الإيراني. كانت أربعة أعوام من الجهود التنويرية والعلمية التي بذلها الإمام قد استطاعت إلى حد ما تغيير المناخ في حوزة النجف. وفي سنة 1969كان هناك فضلاً عن المجاهدين الكثر في داخل إيران أنصار غير قليلين للإمام الخميني في العراق ولبنان وسائر البلاد الإسلامية يعدون النهضة الخمينية نموذجاً صالحاً لهم.

الإمام الخميني (ره) ومواصلة النهضة (1970 - 1977م)

في النصف الثاني من سنة 1971م تصاعدت شدة الخلاف بين النظام البعثي العراقي وشاه إيران ما أدى إلى طرد وتشريد الكثير من الإيرانيين المقيمين في العراق. فبعث الإمام الخميني برقية لرئيس الجمهورية العراقية أدان فيها ممارسات نظامه بشدة. ولأجل إعلان معارضته لهذه الظروف والأحوال قرر الإمام مغادرة العراق، لكن حكام بغداد تنبهوا إلى تبعات هجرة الإمام من العراق فلم يسمحوا له بمغادرة العراق في ذلك الظرف. في الذكرى السنوية لانتفاضة 15 خرداد، 5 حزيران 1975م شهدت المدرسة الفيضية تارةً أخرى انتفاضة طلبتها الثوريين، وتواصلت هتافات (يعيش الخميني) و(الموت للدولة البهلوية) يومين كاملين. وقبل هذا كانت المنظمات المسلحة المعارضة للشاه قد أُبيدت وأودعت الشخصيات الدينية والسياسية المناضلة في السجون. ومواصلة لسياساته المعادية للدين غيّر الشاه في أسفند 1354ش (أذار 1976م) بكل وقاحة التاريخ الرسمي للبلاد من هجرة النبي الأكرم (ص) إلى بداية حكم الدولة الأخمينية. فبادر الإمام لإصدار فتوى شديدة حرم فيها استخدام هذا التاريخ الشاهنشاهي عديم الأساس، ورحب الشعب الإيراني بمقاطعة هذا التاريخ الوهمي كما رحب بمقاطعة حزب رستاخيز (البعث) فكانت هاتان الخطوتان فضحيةً لنظام الشاه ما اضطره للتراجع وإلغاء التاريخ الشاهنشاهي في سنة 1978م.

تصاعد الثورة الإسلامية سنة 1977م

الإمام الخميني الذي كان يتابع التطورات الجارية في إيران والعالم بكل دقة استثمر الفرصة التي سنحت فأعلن في نداء له في مرداد (آب 1977م): »الآن وبفضل الوضع في داخل إيران وخارجها، وإنعكاس جرائم النظام في المحافل والصحف الأجنبية، تتوفر فرصة يجب أن تستثمرها الأوساط العلمية والثقافية والشخصيات الوطنية والطلبة خارج البلاد وداخلها والاتحادات الإسلامية أينما كانت فينهضوا جميعاً بشكل علني«.

استشهاد نجل الإمام آية الله السيد مصطفى الخميني في الأول من آبان 1356ش (23/10/1977م) وإقامة مراسم حافلة لتأبينه في إيران كانت نقطة البداية لانتفاضة أخرى فجرتها الحوزات العلمية والمجتمع الديني في إيران. وقد وصف الإمام الخميني تلك الحادثة في حينها بأنها من الألطاف الإلهية الخفية. نشر نظام الشاه مقالاً مهيناً ضد الإمام في صحيفة اطلاعات لينتقم منه، وأدت الاعتراضات على هذا المقال لانتفاضة 19 دي في قم سنة 1356ش (9/1/1978م) حيث سقط عدد من الطلبة الثوريين مضمخين بدمائهم. ورغم كل ما اقترفه الشاه من مجازر جماعية لكنه لم يستطع إخماد مشعل الثورة المتقد.

هجرة الإمام (ره) من العراق إلى باريس

في بدايات شهر بهمن 1357ش (أواخر كانون الثاني 1979م) ذاع خبر عودة الإمام إلى البلاد، ففاضت أعين الناس بالدموع شوقاً إليه واغتباطاً برجعته بعد أن انتظروا هذا الميعاد 14 سنة. لكن الجماهير والأصدقاء المقربين للإمام كانوا في الوقت ذاته قلقين عليه وعلى حياته لأن الحكومة العملية للشاه لا تزال قائمة وقد أعلنت الحكومة العسكرية. بيد أن الإمام كان قد اتخذ قراره وذكر في نداءاته للشعب الإيراني أنه يريد أن يكون بجانب شعبه في هذه الأيام المصيرية الخطيرة. فما كان من حكومة بختيار إلا أن أغلقت مطارات البلاد بوجه الرحلات الخارجية بتنسيق مع الجنرال الأمريكي هايزر، غير أنها لم تستطع الإصرار طويلاً على قرارها هذا واضطرت للرضوخ لإرادة الأمة فحلَّ الإمام الخميني عائداً إلى وطنه صبيحه يوم 12 بهمن 1357ش (1/2/1979م) بعد 14 عاماً من الفراق. وقد كان استقبال الجماهير له مدهشاً وغير مسبوق إلى درجة اضطرت وكلات الأنباء الغربية للاعتراف به وذكرت أن عدد المشاركين في هذا الاستقبال تراوح بين 4 إلى 6 ملايين إنسان.

رحيل الإمام (ره)... لقاء الله.. فراق الأحبة

كان الإمام الخميني قد أعلن طوال سنوات حياته عن أهدافه ومبادئه وكل ما كان ينبغي أن يبلِّغه، بذل كل طاقته وجهوده في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وعلى أعتاب ذكرى انتفاضة النصف من خرداد (5 حزيران) سنة 1368ش (1989م) كان قد أعد نفسه للقاء حبيبٍ أنفق كل عمره في سبيل تحصيل مرضاته، ولم تنحن قامته أمام كائن سواه، ولم تبك عيناه إلا من أجله. قصائده العرفانية تنم كلها عن آلام فراق هذا الحبيب وتفصح عن تعطّشه الكبير للحظة وصاله. وها قد اقتربت تلك اللحظة الشامخة العظيمة بالنسبة له، العصيبة القاتلة بالنسبة لأنصاره ومحبّيه. كتب هو في وصيته: »بقلب تجلّله السكينة، وفؤاد مطمئن، وروح مبتهجة، وضمير متفائل بفضل الله، أستأذِن الأخوات والإخوة وأرحل إلى موطني الأبدي وأنا بأمس الحاجة إلى أدعيتكم لي بالخير، وأطلب من الله الرحمن الرحيم أن يتقبّل عذري لقصوري وتقصيري وقلّة خدمتي، وارجو من الشعب أيضاً تقبل عذري في قصوري وتقصيري، وأن يواصلوا مسيرتهم إلى الأمام بكل قوة وعزم وإرادة«. الغريب أن الإمام الخميني كان قد قال في إحدى قصائده الغنائية (غزليات) التي نظمها قبل سنوات قليلة من رحيله: »تمر الأعوام وتتعاقب الأحداث وأنا أنتظر الفرج من النصف من خرداد«.

لحظة الوصال كانت الساعة العاشرة وعشرون دقيقة من مساء يوم الثالث عشر من خرداد 1368ش (3/6/1989م) كفّ عن الخفقان قلبٌ أحيى بأنوار الله والمعنوية ملايين القلوب. وكان أصدقاؤه ومحبوه قد نصبوا كاميرا خفية في المستشفى التي رقد فيها أواخر أيامه سجلوا عبرها أحواله أيام مرضه وإجراء العمليات الجراحية له واللحظات التي فاضت فيها روحه. وحينما عرضت من التلفاز لقطات من الحال المعنوية السامية والسكينة التي كانت تغمره في تلك الأيام هاجت القلوب وتفجرت بالعواطف وعمّها وجدٌ لا يمكن وصفه والشعور به إلا لمن عايش تلك الأجواء. بعد أن تعذرت مواصلة مراسم الدفن بسبب عاصفة المشاعر والزحام، أُعلن من الإذاعة كراراً أن يرجع الناس إلى بيوتهم وأن المراسم قد أوكلت إلى وقت لاحق سيعلن عنه فيما بعد. لم يكن المسؤولون يشكون في أن مضي مزيد من الوقت سيضاعف من أعداد المشيعين الخيالية ويضيف إليهم مئات الآلاف من محبي الإمام الآخرين الذين انطلقوا من المدن البعيدة متوجهين إلى طهران، ومع ذلك لم تكن ثمة مندوحة من مواصلة مراسم الدفن وسط تلك المشاعر الجياشة وبصعبوةٍ قصوى نقل مراسلو وسائل الإعلام لقطات منها لأنظار العالم وأسماعه. وهكذا كانت وفاة الإمام الخميني كما هي حياته ينبوع يقظة ونهضة متجددة خلّدت ذكراه وطريقه، فقد كان حقيقةً.. حقيقةً حيةً لا تفنى أبداً.