ما زال أركان التيار الوطني الحر(التيار العوني) يتوهمون أنّ الرئيس السابق ميشال عون ما زال في قصر بعبدا، لذا هم يتبارون في الدفاع عن مقام رئيس الجمهورية الذي كان "قويّاً" وكان "بيّ الكل"، وكان حافظاً للدستور والنظام والكيان، كما كان "جبلاً" شامخاً في بعبدا، لذا هم يستنكرون أن يأخذ أحدٌ مكان الرئيس، أو يمدّ يده على صلاحياته، هكذا خرج علينا بالأمس نائب رئيس مجلس النواب الياس أبو صعب، لِيُدين دعوة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الحكومة إلى جلسة طارئة لإقرار بعض المراسيم الضرورية، قائلاً بأن لا يمكن لمجلس الوزراء أن ينعقد وكأنّ شيئاً لم يكن( يقصد الشغور الرئاسي)، بلى يا دولة الرئيس، ها هنا وهناك أشياء كثيرة حصلت في عهد سيدكم الرئيس "القوي" ميشال عون، عندما فقد مقام رئاسة الجمهورية هيبته وفعاليته، منذ أن قام الرئيس عون بالتنازل عن أهم صلاحياته وواجباته لصالح صهره العزيز جبران باسيل، والذي حوّل رئاسة الجمهورية إلى مهزلة وأضحوكة في نظر الجميع، الذين سخروا على صفحات التواصل الاجتماعي من أطروحة الرئيس "القوي" و"بي الكل"، واستعادة حقوق المسيحيين من يد شركائهم المسلمين "الأشرار".


وبعد، يعلم القاصي والداني يا حضرة النائب أبو صعب، بأنّ الحاكم بأمره في هذا البلد، ومن يتمتع بكامل الصلاحيات، ليس موجوداً في السراي الحكومي، ولا في قصر عين التينة، وأنّ الإمرة هي لمن بيده السلاح غير الشرعي، والذي يستعلي يومياً على السلاح الشرعي، ويمتلك زمام الأمور في كافة مفاصل الدولة اللبنانية، ولم يترك لمقام رئاسة الجمهورية سوى بعض الصلاحيات الإدارية والمالية، وحضور الإحتفالات الرسمية( عيد الاستقلال وعيد الجيش وتقليد الضباط السيوف)، من أجل خلع المشروعية على عهده، وهذه ليست سوى تنازلات سطحية وفارغة، حتى إذا جدّ الجِدّ، وحزم امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله أمره، قال الكلمة الفصل في الأمور الأساسية، دون إغفال الكثير من الأمور الفرعية والثانوية، والدليل الواضح اليوم، منع انتخاب رئيس جمهورية جديد للبلاد لا يكون "حامياً" لظهر المقاومة والممانعة، أي خادماً مطواعاً عند سيدها ومولاها.


أواخر أيام الخلافة العباسية، حصل أمر مُشابه لما يحدث في لبنان هذه الأيام، عندما كان الأمراء البويهيون يتحكّمون بمقام الخلافة، فيقومون بسَجن الخليفة مع حريمه ونسائه في القصر، وهم الذين يُخفضون من مُخصصاته ونفقاته، وأصبحوا هم الذين يخلعونه عن عرشه، وحفظ لنا تاريخ الإسلام المبكّر صورة واقعية عن حقيقة الوضع المزري لمقام الخليفة في هذه الرسالة التي كتبها الخليفة المُطيع لله، جواباً على طلب الأمير "بختيار" مالاً للقيام بالغزو وما شابه ذلك، فأجابه: إنّ الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وإليَّ تدبير الأموال والرجال، أمّا الآن، وليس لي منها سوى القوت القاصر عن كفائي، فهي في أيديكم، فما يلزمني غزوٌ ولا حجٌّ ولا شيء ممّا تنظر فيه الأئمة، وإنّما لكم مني هذا الإسم الذي يُخطبُ به على منابركم، تُسكّنون به رعاياكم، فإن أحببتم أن اعتزل، اعتزلتُ عن هذا المقدار أيضاً، وتركت لكم الأمر كله، وترددت المخاطبات في ذلك والمراسلات حتى خرجت إلى طرفٍ من أطراف الوعيد، واضطرّ إلى التزام أربع مائة ألف درهم، باع بها ثيابه وبعض أنقاض داره، حتى شاع أنّ الخليفة صودر، وكثرت الشناعات.


يبقى الأمل أن لا نصل في يومٍ من الأيام إلى ما وصل إليه، ويصل إليه كل خليفةٍ مُطيعٍ لله، أو لوليّه.