أحيى المسلمون الشيعة هذه الأيام ذكرى استشهاد الحسين عليه السلام، وهي ذكرى مؤلمة في وجدان المسلمين لما يمثله حفيد رسول الله من رمزية أثيرة وجوهرية في صورة الإسلام ومعناه. وإذ أعود إلى مؤرخي المسلمين الأوائل، كالطبري والذهبي والسيوطي وغيرهم من مؤسسي الذاكرة السنية، فإن الرواية حاسمة ونهائية. فالإجماع منعقد على تجريم أسوأ حكام المسلمين -إن صحت نسبته إلى الإسلام- يزيد بن معاوية، بل أن بعض المؤرخين كالسيوطي لم يتردد في لعن يزيد في تأريخه (تاريخ الخلفاء)، وقد خالفه في ذلك بعض فقهاء السنة المعتبرين الذين لم يلعنوا يزيداً تزكية له، إنما لتعففهم عن اللعن نفسه، فهم لم يلعنوا يزيداً ولم يلعنوا غيره استناداً إلى أن الرسول الكريم لم يبعث شتّاماً ولا لعّاناً، لكنهم في المقابل لم يوفروه إدانة وذمّاً، واعتبروه أميراً غاصباً ظلوماً جهولاً من زمرة الفسّاق والفسدة. والحقيقة أن عهد يزيد شاهد عليه، من اغتيال الحسين وأسر أسرته إلى حصار المدينة واستباحتها ثم قصف الكعبة بالمنجنيق. وكل جريمة من هذه تشرّع حرقه في الدنيا والآخرة، فإن حصل كل ذلك بعلمه فتلك مصيبة وإن لم يكن بعلمه فالمصيبة أعظم، لذلك راجت المقولة السنية: "إلعن يزيد ولا تزيد"، مع أن المذمة تقع على اللاعن قبل الملعون. لذلك، وبضمير مرتاح، ليس من أهل السنة من يمجد يزيداً وإن زعم هذه الهوية. وفي المقلب الآخر، عند متطرفي الشيعة (وليس مطلق الشيعة) يأتي إحياء استشهاد الحسين بأسلوب مغرض. فالحسين عليه السلام، الذي أفديه بنفسي، ليس الشهيد الوحيد في الإسلام وليس الثائر الأوحد في العالم، لكننا لا نشاهد اللطم والندب والنجيش والتطبير على بقية الشهداء، بداية من حمزة بن عبدالمطلب (عمّ النبي) مروراً بابن الزبير وابن الأشعث، وليس انتهاء بتشي غيفارا إذا خرجنا من دائرة العرب والإسلام. لماذا الحسين وليس حمزة، رضي الله عنهما؟ لأن اغتيال الحسين حصل بعد قيامة دولة المسلمين، أما استشهاد حمزة فتم في صراع بين كفر وإسلام، وبالتالي فإن متطرفي الشيعة - وليس مطلق الشيعة مجدداً - يستطيعون استغلال محنة الحسين في التجييش ضد الآخر المسلم السني (القاتل من وجهة نظرهم) لإعلاء منطق الثأر والإلغاء الطائفي. ويستغل متطرفو الشيعة التباس التاريخ عند العوام لتمرير تفسير طائفي متهافت - مباشرة أو مواربة - مفاده أن يزيد السني قتل الحسين الشيعي، مع أنه في تلك المرحلة لم تتشكل بنى السنة والشيعة كطوائف بالمعنى الصريح، بل كان كل المسلمين سنة. وإذا أردنا أن نتحدث بالمعنى السياسي وفق المنطق الطائفي المختل يمكن القول إن كان الآمر بالاغتيال سنيّا وفق منطقهم فالمنفذ شيعي، والمراجع التاريخية تؤكد أن الجيش الذي استهدف الحسين تكوّن ممن زعموا أنهم شيعته وأنصاره، حتى إن طقوس العزاء بدأت ندما من خاذلي الحسين تحت مسمّى التوابين. ويحضرني اليوم كتاب "ثورة الحسين" للمرجع المعتدل السيد الجليل محمد مهدي شمس الدين، الذي يثير الاستغراب حين تلمس حسه النقدي في قراءة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه، وفي المقابل لا يفرق بين مكانة آل البيت، (علي وابناه) عليهم السلام، وبين أدائهم السياسي، وتفرغ تبريراً لتنازل الحسن وثورة الحسين مع أنهما أفضيا لنتيجة واحدة، فالتنازل سلّم الحكم لمعاوية، والثورة الحسينية لم تنه حكم بني أمية ولم تمنع حكم العباسيين الذين كانوا أشد على الشيعة "بالتوصيف السياسي هنا" وآل البيت من الأمويين. ألم يقل الشاعر: يا ليت جور بني مروان عاد لنا / وأن عدل بني العباس في النار. ولم يقبل الشيخ مواربة تجيير غضبة المسلمين على اغتيال الحسين لغير الشيعة الذين لم يتكونوا آنذاك هيكلاً طائفياً مذهبياً كالسنة، بل أن أهم الغاضبين لا يمكن حسبانه إلا ضمن الأصول السنية الواضحة، عبدالله بن الزبير، حفيد أبي بكر الخليفة وابن أسماء ذات النطاقين. ومذ تقدمت إيران أغلب الصف الشيعي، تعاملت مع مأساة كربلاء كما تعامل الصهاينة مع المحرقة النازية البشعة، إذ استغل الصهاينة المحرقة في إقامة ألف محرقة ضد الفلسطينيين والعرب وإقامة وطن عنصري يهودي. وكربلاء توظفها إيران لإحياء الإمبراطورية الفارسية وسفك دم العرب والسنة، ولست أدري ما هو ذنب سني حماة أو الأنبار الذي يصلي على النبي وآله في كل صلاة بثارات الحسين من الشمر ويزيد وابن سعد وابن زياد الملفوظين من السنة قبل غيرهم، بل إن السنة حينها هم الذين اقتصوا من أولئك الأوباش جميعاً وانتهى الأمر، ولا أدري، أيضاً، ما هي صلة الحسين العربي المسلم بالأكاسرة الذين بادت دولتهم على يد العرب والمسلمين يتصدرهم آل البيت. في العالم كله يتم الاحتفاء بالذكريات السعيدة، لذلك يبدو الاحتفاء بكربلاء غريباً وسلبياً، وأسلوب المتطرفين لا تفسير له سوى البحث عن الثأر المجاني وإرضاء شهوة الدم، ومع تراكمات التاريخ والتحريض والاستقواء الإيراني انتهت كربلاء إلى شعلة طائفية تستعملها "ولاية الفقيه" لأغراضها، فهذا الإيراني أو العربي المتأيرن الذي يقتل السنة والعرب في العراق أو في سوريا أو في لبنان يرفع شعار "لبيك يا حسين" والحسين من ذلك براء، فهو، عليه السلام، يريد كفوفاً تتصافح ونفوساً تتسامح كما يقول العلامة السيد علي الأمين، ولعلها من سخرية الأقدار أن يناصر حفيد للحسين كالسيد حسن نصرالله (أمين عام ما يسمى بحزب الله) حفيداً ليزيد ومثيله هو بشار الأسد على عموم المسلمين والعرب من أبناء الحسين وأحبابه لمصلحة دهاقنة فارس الحاقدين على العروبة وعلى الإسلام، ولقد كانت إسرائيل عنده شراً مطلقاً لكنه اليوم وجد دول السنة شراً أكبر، فصدق علي الوردي حين قال: "يبكون على الحسين في محرم ويقتلونه في الاشهر الاخرى. أحمد عدنان موقع لبنان الكبير