لم يكن الاختلاف الثقافيّ الجذريّ الذي برز أخيراً في لبنان وليد أوانه، والذي ظهر نتيجة حدثين ثقافيين مختلفي الشكل والمضمون، وهما عرض فرقة "ميّاس" العالميّ الذي حصد إعجاباً واسع الانتشار نتيجة الأداء العالي المستوى، وإطلاق نشيد "سلام يا مهدي" في عدد من الدول التي ينتشر فيها المذهب الشيعيّ، وهو فريد من نوعه، أُطلق باللغة الفارسيّة وتُرجم إلى لغات، منها العربيّة، وحتّى إلى لهجات، منها اللبنانيّة والبحرينيّة.

انقسم اللبنانيون ثقافيّاً بشكل عموديّ وحادّ، وكان الحدثان معرض تجاذب بين طرفين، الأوّل دعم "ميّاس" وإنجازها واعتبر الفرقة وجه لبنان الحضاريّ، وفي الوقت نفسه، صوّب سهامه تجاه "سلام يا مهدي"، ولم يرَ فيه سوى نشيدٍ طائفيٍّ وإيديولوجيٍّ، هدفه استثمار الدين في السياسة لأغراض تعبويّة، ورفض إدخال هذا النشيد إلى النسيج اللبنانيّ باعتباره غريباً عن ثقافته.

وعلى المقلب الآخر، طرف وجد في النشيد الثقافة التي يبحث عنها، الثقافة الدينيّة المرتبطة بشكل مباشر بالسياسة وتفرّعاتها، واتّخذ من حرية المعتقد والرأي والتعبير درعاً لإعلاء أصداء النشيد في كلّ مكان، لاسيّما المدارس. وجزء من هذا الفريق (لتفادي التعميم مع الأخذ بالاعتبار عدم الشموليّة)، رأى في الإنجاز "الميّاسيّ" انحرافاً عن الثقافة وخروجاً عن آداب الشكل، فانتقد الملابس واعتبرها فاضحة، كما رفض تواجد النساء في حدث راقص على الشاشات العالميّة.

اختلافات جذرية بمضمونها، تعكس مدى عمق الانقسام الثقافيّ في لبنان، وإذا ما كنّا نرغب في رؤية الصورة على حقيقتها من منظار أوسع، وجب البحث في توجّهات الطرفين من مسافة أبعد من رؤيتيهما للحدثين نفسيهما، لأنّ نهج التفكير نفسه ينطبق على كلّ حدث ثقافيّ يحصل، وبالتالي لكلّ طرف منظار ثقافيّ حضاريّ ينطلق من خلاله لتقييم الأحداث وفق معايير مرتبطة به، ويعود لوسائل الإعلام تظهير كلّ وجهة نظر والترويج لها.

لم يكن الانقسام موجوداً في لبنان بهذه الحدّة في الماضي القريب، وبالتحديد قبل الحرب الأهليّة، فكانت الثقافات متقاربة، رغم وجود اختلافات بسيطة وتحفّظات على ممارسات دون أخرى، لكن وبالمجمل، الثقافة اللبنانيّة واحدة بين جميع أطياف المجتمع اللبنانيّ، وعمادها تقبّل الآخر باختلافاته الفكريّة والدينيّة. 

مع دخول لبنان أتون الحرب، تأسست جماعات أصوليّة ودينيّة في لبنان، أدخلت معها إلى النسيج اللبنانيّ ثقافات دينيّة متشدّدة غريبة عن الثقافة اللبنانية التي عُرفت بانفتاحها. وانحسر تواجد معظم هذه الجماعات، وبعضها اندثر، باستثناء "#حزب الله"، الذي اتسعت رقعة انتشاره داخل البيئة الشيعية. ومن المعلوم أنّ "حزب الله" حزب دينيٌّ، يتبع بشكل مباشر ل#إيران، وهو ما أعلنه السيّد حسن نصرالله ومسؤولو "حزب الله" مراراً وتكراراً.

تستند ثقافة "حزب الله" الى ولاية الفقيه، ويربط الحزب مباشرةً بين الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة انطلاقاً من مبدأ الولاية. ومن هذه النقطة، يستثمر الحزب الدين في كلّ قضيّة، لاسيّما القضايا السياسية، وجاء النشيد في هذا السياق، وتحدّث عن ولاء لشخصيات محور إيران، لاسيّما المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، قاسم سليماني، عماد مغنية وراغب حرب.

ولا تخفى على أحد مساعي "حزب الله" إدخال الثقافة الإيرانية إلى لبنان، من خلال الأناشيد والصور والكتب والأنشطة وغيرها من الأشكال التي تحمل إطارات ثقافية، خدمة لمشروعه والحفاظ على قاعدته الشعبية الواسعة من جهة، وعلى محاولة دمج لبنان بشكل كامل بالمحور الإيراني، والذهاب الى ما هو أبعد من ذلك، كالتوجّه شرقاً اقتصادياً وسياسياً، من جهة ثانية.

وبالعودة إلى النشيد، أشار رئيس تحرير موقع "جنوبيّة" الصحافيّ علي الأمين إلى أن "تمّ توزيع النشيد على مختلف المناطق الشيعية في العالم، وتُرجم إلى لغات عديدة، لكن وجب التأكيد أنّه نشيد سياسي لا ديني، اتّخذ من فكرة المخلّص (المهدي) سبيلاً للاستثمار السياسي، وربطها بالإمام الحاضر، وهو المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي".

وفي حديث لـ"النهار"، لفت إلى أنّ "النشيد إيديولوجيّ، لكنّه يتناقض مع العقيدة الشيعية التي قامت على الاجتهاد والتعدّد، لأنّه يقدّم فكرة إلغاء الطرف الآخر، وهذا ما لا يمتّ إلى الثقافة الشيعية التي لا تمنح قداسةً لأيّ موقع ديني أو سياسي، مع العلم أنّ الإعلام لعب دوراً محوريّاً في نشر هذه الصورة والأفكار".

واعتبر أنّ النشيد "يثير القلق والخوف بالمعنيَين الوطني والثقافي، لأنّه يلغي الآخر وأفكاره ومعتقداته، في حين من المفترض أن يكون جامعاً واحداً لنقاط مشتركة مع الآخر، ولا شكّ أنّه استُخدم لشدّ العصب الداخلي من جهة، والتغطية على الأزمات والمآسي من جوع وفقر وحرمان وانهيار، وهذا هروب من مواجهة الواقع".

وفي هذا السياق، استطرد الأمين فقال إنّ "توجيه النشيد إلى الأطفال بشكل خاص هو استغلال لبراءتهم، وهدفه التأثير عليهم إيديولوجياً، وهو ما يعدّ إلغاءً لشخصية الطفل العفوية، واستبدالها بالتلقين السياسي والديني، مع العلم أنّ هذا الأسلوب ليس جديداً، واعتُمد من قبل شخصيات وأنظمة".

أمّا عن مقاربة ظهور الحدثين الثقافيين ("ميّاس" و"سلام يا مهدي") في الوقت نفسه والاختلاف الذي ظهر حولهما، ذكر الأمين أنّ "عمل الفرقة كان حدثاً من نمط آخر، يحتمل وجهتي نظر، إمّا الترحيب والدعم، أو عدم الإعجاب، وهنا تبرز ثقافة حرية الرأي والتعبير، أمّا بالنسبة إلى النشيد، فهل يُمكن رفضه؟ ستُطلق الاتّهامات من منطق تكفيريّ لا يقبل اختلاف وجهات النظر".

لكنّ الأمين رفض الصورة النمطية التي تتحدّث عن "ثقافتي الحياة والموت"، وأشار إلى أنّ "بيئة "حزب الله" لا ترفض الاختلاف الثقافي بالشكل، لكنّها ترفض الاختلاف السياسي والخروج عن خطّها"، وفي هذا الإطار، أعطى الأمين بحر صور مثلاً، ولفت إلى أنّ "لجميع زوار الشاطئ حرية التعبير عن ثقافتهم بالطريقة التي يريدونها (لجهة الملبس أو الكحول وغيرها من الأشكال الثقافية)، لكنّه يرفض الاختلاف السياسي".

وأضاف: "الأمر ينطبق أيضاً على المغنيات مثلاً، إذ يزعم البعض أنّ الحزب يرفض غناء المرأة، لكنّنا رأينا في وقت سابق مهرجانات للفنانة جوليا بطرس في الجنوب، وهي لا تختلف عن إليسا (المرفوضة من قبل هذه البيئة) مثلاً سوى في الخطّ السياسي، ما يعني أنّ هذه البيئة لا تدعم ثقافة الموت وترفض ثقافة الحياة، بل ترفض التعدّد والتنوّع والاختلاف بالرأي فقط".

من جهته، رأى الشيخ عباس الجوهري في النشيد "بعداً ثقافياً، ومن خلاله، تحاول إيران أن تكون محور المذهب الشيعي، وتضع اليد على كلّ مجتمعات المذهب لصناعة ثقافة مغايرة كليّاً عن ثقافة أهل الشيعة الحقيقية، ولهذا السبب تُرجم النشيد إلى لغات متعدّدة".

وفي معرض تعليقه على النشيد وتبعاته الثقافية لـ"النهار"، رأى الجوهري أنّه "ثقافي أكثر ممّا هو تعبوي، لكنّه لا شكّ يخدم شدّ العصب في ظلّ احتدام الصراع الإقليمي وعدم وصول المفاوضات النووية إلى خواتيم ترضيها، وبالتالي تأزّم الوضع أكثر على كافة الصعد".

وعن إنجاز فرقة "ميّاس" ومقارنته بإطلاق النشيد من منظار ثقافيّ، أشار الجوهري إلى أنّ "الفرقة أرادت تثبيت مدنيّتها، وهي شعرت بتهديد للهوية وبضرورة التحرّك للمحافظة عليها، فكان العرض، ونحن بحاجة إلى إظهار بعدنا المدني الإنساني الثقافي الذي يتجلّى بالانفتاح على لغة العصر، مع العلم أنّ هذا لا يلغي مذهب كلّ شخص ومعتقداته".
 
 
موضوع فرقة "مياس" ونشيد "المهدي" تفاعل أخيراً على مواقع التواصل وفي الاعلام العربي والغربي، وقد كان هناك إجماع لا شكّ فيه على أنّ "حزب الله" يعبرّ عن مأزق معيّن بمشروعه البعيد والقريب المدى، إلّا أنّه أكثر من ذلك، ينبّه المراقبون على أنّه بعد فرض صورة قاسم سليماني في معرض الكتاب في بيروت بالقوّة، وبعد مظاهر "رشّ" الصور على طول طريق المطار برموز ليست لبنانية وغريبة عن هذه البيئة، إضافة إلى مواقف عدّة من الحزب أو قريبة منه، كانت تصدر بشأن عرض هذا الفيلم أو ذاك في صالات السينما، فهذا يؤكّد أنّ "حزب الله"، ومن خلال تعميم عادات وثقافات مغايرة للواقع اللبناني يحاول تغيير صورة لبنان وكيان لبنان وهوية لبنان وشعب لبنان.