ثمة مَن يعتقد أنّ رئاسة الجمهورية لن تبقى لـ»موارنة الصف الأول» بعد الرئيس ميشال عون، وأنّها ستعود إلى ما كانت عليه بعد الطائف، أي إلى نموذج الرئيس الياس الهراوي. فهل ستسمح الظروف والتوازنات المستجدة بين الطوائف بخيار من هذا النوع؟

المراقبون يتحدثون اليوم عن اختلال في العلاقات الطوائفية لمصلحة القوى الشيعية تحديداً. فالسُنَّة يعيشون وضعية التشرذم والإرباك. وقد جاءت الأزمة مع المملكة العربية السعودية لتزيدها حدّة. وهي تُترجم بغياب الرئيس سعد الحريري عن المسرح وتراجُع دور «المستقبل» داخل الطائفة وفي البلد.


 

ولكن، في المقابل، يصعُب ظهور زعامة بديلة في هذا الظرف. والقوى السنّية التي تبرز اليوم تستطيع فرض حضورها ضمن حدود معينة، لكن الظروف لا تبدو مناسبة لوصول إحداها إلى حال الاستقطاب الشامل داخل الطائفة، ووراثة الحريرية السياسية في شكل كامل، في فترة العام المتبقية من العهد.

 

وأما المسيحيون فليسوا أفضل حالاً، ولو ظهروا في الشكل أقرب إلى النموذج الشيعي، لجهة الثنائية السياسية في القيادة. فـ»أمل» و»حزب الله» ينسِّقان في الاستراتيجية ويتركان هامشاً للاختلاف في التكتيك، فيما «الثنائي المسيحي»- إذا صحّ التعبير- هو في الواقع «ثنائيٌّ نِزاعيٌّ» في الاستراتيجية والتكتيك. وهذا التنافر يفتح الأبواب لبقاء الواقع المسيحي تحت هيمنة الأقوياء، أياً كانوا.

 

واليوم، مع اقتراب عهد الرئيس ميشال عون من الانتهاء، يبدو أقطاب المسيحيين في وضعية التشرذم والضعف، ستؤدي إلى سقوط «الفتوى» التي أطلقوها في بكركي، بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وعلى أساسها حُصِرت المعركة «شرعاً» بـ4 أقطاب، وجرى «تحريم» أي ترشيح للرئاسة من خارج هذا النادي، تحت عنوان أنّه لا يحظى بتغطية القواعد المسيحية.


 

وهذه «الفتوى» هي التي جعلت التنافس الرئاسي محصوراً، بين 2014 و2016، بمرشحين فقط هما عون وسليمان فرنجية. وكان مثيراً أن ينسحب الدكتور سمير جعجع لمصلحة أحدهما، أي عون، بعدما وجد نفسه مضطراً إلى الاختيار بين «8 آذار أصلي» و»8 آذار تقليد». وطبعاً، تقارب جعجع لاحقاً مع «الأصلي»، بعدما اكتشف أنّ «التقليد» كان «أصلِياً أكثر».

 

اليوم، مشكلة الأقطاب الموارنة مع الرئاسة تبدو أكثر عمقاً. وتوحي المعطيات بأنّهم جميعاً خسروا حظوظهم فيها: ففي صفّ 8 آذار، باسيل محروق أميركياً بالعقوبات، وفرنجية أحرقته أزمة قرداحي، بعدما أطاحت برصيده مع السعوديين. وأما جعجع وسائر أقطاب 14 آذار فمحروقةٌ حظوظهم دائماً منذ أن قامت دولة ما بعد الطائف.

 

وفوق ذلك، تدور معارك مسيحية قاسية على محور باسيل- جعجع ومحور باسيل- فرنجية. كما يخوض الجميع معارك شرسة على محاور طائفية أخرى، في توقيت حسّاس، وأبرزها حرب باسيل مع الرئيس نبيه بري. ونتائج هذه المواجهات ستنعكس على مستقبل الزعامات المسيحية وحظوظها في الوصول إلى موقع الرئاسة.

 

فهذا التشرذم المسيحي يبرِّر للقوى النافذة، داخلياً وخارجياً، أن تقفز فوق الأقطاب المسيحيين وتختار رئيساً «وسطياً» للجمهورية أو شخصية من خارج السباق. وهذا الأمر حصل في داخل الطائفة السنّية عندما غادر الحريري موقعه في رئاسة الحكومة، وحلَّ مكانه في مراحل معينة، تمام سلام أو نجيب ميقاتي أو حسّان دياب.


 

ويتردَّد أنّ شخصيات مارونية عدة، من خارج صف الأقطاب، بدأت تقوم بعملية جسّ نبض استعداداً للمعركة الرئاسية. وفي اعتقاد البعض أنّ البلد قد يكون ذاهباً إلى مؤتمر وتسوية على غرار الطائف، وهي ستنتج سلطة مشابهة لتلك التي أرساها هذا الاتفاق مطلع التسعينات من القرن الفائت، وقضت باختيار «وسطيّ» في موقع الرئاسة.

 

وثمة قوى محلية وخارجية تحبذ العودة إلى هذا الخيار مع نهاية عهد الرئيس عون. والفشل الذي سقط فيه هذا العهد، على مدى 5 سنوات حتى الآن، يشكّل ذريعة للقائلين بضرورة العودة إلى «الرئيس التوافقي»، واستنتاج أنّ تجربة «الرئيس التصادمي» (أي «القوي»، وفق تعبير فريق عون) كانت كارثية على البلد.

 

ولكن، هل يكون الأقطاب المسيحيون في وضعية الضعف، بحيث يتاح فعلاً إقصاؤهم عن كرسي الرئاسة الأولى؟ وهل تجمعهم المصيبة مرّة أخرى، كما في العام 2016، فيتفقون على احتكار الموقع أم إنّ الأحقاد التي نمت خلال عهد عون ستدفعهم إلى خيار «عَليَّ وعلى أعدائي يا رب»؟

 

بعبارة أخرى، إذا أدرك جعجع وفرنجية والآخرون أنّ الرئاسة ستؤول إلى باسيل، هل يرضخون للأمر الواقع، كما رضخوا لانتخاب عون في 2016، أم سيحاولون العرقلة ولو كان البديل شخصية من خارج صف الأقطاب؟


 

اليوم، يقول جعجع إنّه نادم على انتخاب عون. وأما فرنجية فلم «يبلع» انتخابه أساساً. لكن، رهان عون وباسيل معقود على أنّ الكلمة الفصل ستبقى في الدرجة الأولى للحليف القوي «حزب الله». وأي مصلحة لـ»الحزب» في أن يخسر الحليف المسيحي الأقوى في طائفته والأكثر تمثيلاً، ليربح حليفاً أقل تمثيلاً بكثير؟

 

على الأرجح، يستخدم باسيل استراتيجية عون نفسها للوصول إلى الرئاسة، أي الرهان على «حزب الله» والتعطيل واللعب «صولد». فهو يريد أن يكون هو صاحب الحظ الأوفر إذا جرت الانتخابات. وأما إذا تعطّلت، وخسر باسيل فرصته، فسيكون عون بالمرصاد: سيتمسّك بموقع الرئاسة، ولن يغادره حتى إشعار آخر. وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث.