إذا كانت الضفدعة الصمّاء استطاعت الخروج من البئر الذي علقت فيه، بينما غرقت الأخرى التي تسمع (تبعاً لقصة رواها وزير الاقتصاد الجديد في معرض تأكيده بأنّه سيتجاهل التشويش)، فإنّ المطلوب من وحدة «الضفادع البشرية» في الحكومة الجديدة، التمييز بين التشويش والحقائق، بحيث لا تدير الأذن الصمّاء لصرخات الناس وأنينهم.
 
على وقع الظهور الأولي لأغلب الوزراء حتى الآن، يعتبر احد العارفين، أنّ الإنصاف يقتضي الإقرار بأنّ هناك اسماء ممتازة في الحكومة، الّا انّه وفي المقابل، يوجد عدد غير قليل ليس مؤهّلاً لمواجهة هذه المرحلة وتحدّياتها الاستثنائية التي تستوجب «خامات» وقامات من وزن الاستحقاقات المفصلية.


 

والأرجح، انّ الدور الأساسي في مقاربة التحدّي الاقتصادي سيؤدّيه الرئيس نجيب ميقاتي ووزير المال، مع القوى الأساسية الداعمة للحكومة، علماً انّه اذا تعذّر ان يكون جميع الوزراء ملائمين، فمن الضروري التعويض عبر مستشارين جيدين، يملكون القدرة على إعطاء الطاقم السياسي المشورة المناسبة.

 

ومع ذلك، هناك من يفترض انّ الحكومة، وعلى رغم تفاوت مستويات وزرائها، بمقدورها أن تترك بصمة. وليس صحيحاً انّ الوقت حتى الانتخابات النيابية المقبلة، لا يسمح لها بأن تُطلِق معالجات استراتيجية وجذرية، وانّ أقصى ما تستطيع فعله هو ان تتصرف كبلدية كبيرة، مهمتها تأمين الخدمات الضرورية للمواطن.

 

ويذهب بعض الخبراء الاقتصاديين الى التأكيد، انّ بإمكان الحكومة التوصل الى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي خلال فترة تتراوح بين 6 و8 أشهر، إذا جرت مخاطبته بلغة موحّدة، خصوصاً انّ الحقائق كلها أصبحت واضحة، ولم يعد هناك ما هو مخفي، والمطلوب حسم الخيارات واتخاذ القرارات السليمة.

 

وضمن هذا السياق، يلفت وزير الاقتصاد السابق رائد خوري، الى انّ العامل المساعد حالياً، هو انّ الوقائع على الأرض وفّرت الكثير من الإحراج والعناء على الرئيس ميقاتي والدولة اللبنانية ككل، معتبراً انّه لو وصل ميقاتي الى السرايا قبل عام، لكانت مهمته أشدّ صعوبة وتعقيداً، بينما يبدو الآن انّ الطلبات القاسية التي كان يشترطها صندوق النقد في مقابل دعم لبنان مالياً، تحققت من تلقاء نفسها خلال الفترة الاخيرة، إذ رُفع الدعم عملياً عن المحروقات، وتحرّر سعر صرف الدولار، وتغيّر وضع القطاع العام، بعدما انخفضت كلفته بفعل الفارق بين الليرة والدولار، إضافة إلى انّ شريحة من العاملين فيه باتت تشعر بأنّه صار عبئاً عليها تفضّل التخلص منه، وليس مصدر منفعة لها كما كان الأمر قبل الانهيار.


 

وبناءً عليه، يلاحظ خوري انّ ميقاتي ينطلق حالياً من أرض محروقة ولم يعد هناك ما يخشاه، الأمر الذي سيسهّل عليه وعلى حكومته صنع الفارق إذا أجاد التعامل مع الواقع والمرتجى.

 

اما «خطة التعافي» التي أقرّتها حكومة الرئيس حسان دياب، فإنّ خوري ينصح بتجاوزها والتخلّي عنها كلياً، لانّها لا تفي بمتطلبات الخروج الآمن من نفق الأزمة، وهي ارتكزت في جوهرها على قواعد خاطئة تحول حتى دون إمكان تعديلها.

 

ووفق رأي خوري، ينبغي توزيع الخسائر وفق تراتبية عادلة تأخذ في الحسبان من يتحمّل المسؤولية الأكبر ومن استفاد اكثر على امتداد ثلاثين عاماً من الاقتصاد الريعي، «وهذا المعيار يعني انّ النسبة الأساسية من الخسائر يجب أن تتحمّلها الدولة، في اعتبارها الطرف الذي استدان الأموال وأهدرها، يليها مصرف لبنان والقطاع المصرفي، ثم يأتي المودع في آخر اللائحة».

 

ولعلّه من الضروري تعريف مصطلح «التعافي» وما المقصود به، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه. إذ انّ خوري مقتنع بأنّ استعادة نمط الاقتصاد والحياة الذي كان سائداً قبل 17 تشرين الأول 2019 لم تعد واردة بتاتاً، ولا تصح المقارنة بين ما كان وما سيكون. داعياً الى الاقتناع بأنّ النموذج المالي والاقتصادي السابق انتهى كلياً الى غير رجعة، بعدما استنفد طاقته ودوره، «وبالتالي على اللبنانيين ان يشمّروا عن زنودهم ويتحوّلوا منتجين وكادحين، خصوصاً انّ بعضهم اصيب بالكسل والخمول خلال عقود من الاقتصاد الاتكالي، الذي افرز أنماطاً سلوكية باتت غير مقبولة».


 

وتبعاً لتقديرات خوري، تتوقف المدة التي سيستغرقها التعافي على تحديد معاييره وفحواه، فإذا نجحنا على سبيل المثال في تحقيق نمو اقتصادي بمعدل 10 في المئة سنوياً خلال المراحل المقبلة، قد نحتاج إلى ما بين 5 و10 سنوات للنهوض، «علماً انّ بلوغ هذا المعدل ليس سهلاً، ويستوجب جهداً كبيراً، لاسيما انّ الانطلاقة تتمّ من الصفر تقريباً».

 

ويصرّ الوزير السابق رائد خوري على التمسّك بالأمل، لافتاً الى انّ الفرص موجودة والخيارات متوافرة، «والمحك يكمن في نمط التصرف الذي يتوقف عليه بدء الصعود من الهاوية او مواصلة الانحدار نزولاً»، مشدّداً على أنّ الاقتصاد المنتج الجديد لا يعني فقط التحوّل نحو قطاعي الزراعة والصناعة بالمفهوم التقليدي، «بل الأساس هو اعتماد اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا، حتى في التعاطي مع هذين القطاعين، وهناك طاقات لبنانية هائلة في هذا المجال ينبغي الاستفادة منها ومنحها الفرصة الكاملة، بدل تركها تهاجر بوتيرة مكثفة كما يحصل الآن. كذلك من الملحّ تطوير القطاع المصرفي على قاعدة تكييفه مع المتغيّرات، لأنّه يبقى احد أعمدة الاقتصاد اللبناني».

 

ويشدّد صاحب «خطة ماكنزي» على أهمية الاستناد اليها في «انتقاء الخيارات الاقتصادية المقبلة، انطلاقاً من مقاربة علمية، وفي تحديد عناصر القوة والضعف التي نملكها، بدل مواصلة التخبّط العبثي وإضاعة الوقت في حقل التجارب، والحكومة مُطالبة بأن تبدأ في تنفيذ تلك الخطة ونفض الغبار عنها اختصاراً للمسافات».