في وضعيةِ الانهيار والتفكُّك، هناك أمرٌ خطِر يحدث في البلد: تستفيق «نوستالجيا» الإدارات المحلية من زمن الحرب الأهلية، ومعها «عنتريات» زعران الشوارع والأحياء، وتَظهر فاقعةً «غَيْرَة» زعماء الطوائف على «خِرافها». فهل يكون لبنان راجعاً إلى مناخاتِ الحرب بِقصدٍ أو بغير قصد؟
 
ليس بسيطاً ما سيقود إليه وعدُ «حزب الله» بإيصال شحنات من المازوت والبنزين الإيرانيين، عبر البواخر، إلى لبنان. وبمعزل عن السؤال الشائع حول جِدّية هذا الأمر أو احتمال تعرُّض البواخر للاعتراض في عرض البحر، فإنّ دخول إيران إلى لبنان من الباب العريض لسوق المحروقات ستترتب عليه نتائج اقتصادية واجتماعية وسياسية بالغة الأهمية.


 

ليس واضحاً هل سيتمّ إفراغ المحروقات الإيرانية في لبنان أو في سوريا. ولكن، في أي حال، عندما تدخل الأراضي اللبنانية سيكون التحدّي هو: على أي مناطق (وطوائف) سيتمّ توزيعها؟ وهل سيتاح لخصوم «حزب الله» أن يستقبلوا النفط الإيراني، ويحققوا له الهدف بإظهاره منقذاً من الأزمة؟

 

مبدئياً، سيوعز الأميركيون والخليجيون العرب إلى حلفائهم في لبنان ليرفضوا الهدية الإيرانية. وربما يردّون بإطلاق وعدٍ بتقديم «محروقاتٍ عربية» إلى مناطق معينة، وبأكلاف تنافسية. فإذا حصل ذلك، ستكون هناك مناطق «تعمل» على الطاقة الإيرانية، وأخرى «تعمل» على الطاقة الخليجية. فأي طاقة ستختار الدولة لمؤسساتها… إذا بقيت طاقة لها ومؤسسات؟

 

مبدئياً، ستنقسم مؤسسات الدولة وأجهزتها وإداراتها تبعاً لانقسام البلد: تلك الواقعة في «مناطق إيران»، وتلك الواقعة خارجها! وهكذا، تفقد المؤسسات العامة طابعها الرسمي الموحَّد وتنقسم.

 

يعتقد البعض أنّ من المبكر الكلام حول البواخر الإيرانية وطريقة توزيع حمولتها، والكلام على وصولها إلى لبنان أو عدم وصولها. فبوجود النفط الإيراني أو من دونه، مشهد التفكّك يتكامل وتتزايد ملامح الفوضى.


 

فهذا الواقع هو اليوم مشروع احتكاك أمني وشرارة فتنة في أي لحظة. والإثبات ما جرى أخيراً بين مغدوشة وعنقون، وقبله حصلت مئات الاشتباكات في المحطات وعلى جوانب خزانات البنزين، وسقط قتلى وجرحى، واحترقت أملاك. وأما في التليل، فكانت مجزرة. ولا أحد يضمن عدم الاستفاقة على صدمة في أي مكان.

 

وصار لافتاً أنّ اهتمام القوى الأمنية بتعطيل الفتنة في المحطات بات اليوم أكثر إلحاحاً من اهتمامها بتعطيل الخلايا الإرهابية. وغالباً ما يتحكّم بـ«اشتباكات البنزين» زعران و»قبضايات» يريدون فرض سطوتهم، وأحياناً يستخدمونها لحلّ الإشكالات الواقعة بين آخرين، كما كان يحدث في زواريب الحرب الأهلية.

 

وغالباً ما يظهر السلاح في هذه الإشكالات، فيبدأ سلاحاً أبيض ويصبح أسوَد شيئاً فشيئاً… ومع الوقت، يزداد اسوداداً. وفي الخلاصة، هناك مناخ ميليشيوي يسيطر على غالبية محطات الوقود. وهذا المناخ، إذا تطوّر، قد يوقظ الفتنة من نومها. والفتنة «نومُها خفيف» عندنا.

 

ولكن أيضاً، في الموازاة، تستنكف غالبية موظفي القطاع العام عن المداومة في مكاتبها كالمعتاد، ما يعطِّل أعمالاً حيوية للمواطنين. وإذا تفاقم هذا الأمر، فقد يأتي اليوم الذي يجد فيه «زعماء المناطق» أنفسهم أولياء على الدولة فيفرضون الحلول على طريقتهم.


 

وسيتدخل هؤلاء أيضاً في كل شاردة وواردة تتعلق بحياة الناس «في مناطقهم»: من المستوصف والمستشفى والصيدلية إلى الفرن والمدرسة والجامعة، إلى معامل الكهرباء ومحطات التحويل ومضخات المياه وحافلات النقل العام. وفي هذه الحال، يصبح البلد مقسَّماً على فسيفساء من «الإدارات المحليّة» الناشطة والمدعومة خارجياً، تماماً كما كانت خلال الحرب.

 

وستكون الذروة بصعود الدولار إلى سقوفٍ خيالية. وفي هذه الحال، ستتبرع قوى الأمر الواقع بفرض حلولها على «السوبرماركت»… في موازاة تنظيمها شحنات الإعاشة للناس في مناطقها. وطبعاً، هي ستبرّر لنفسها السيطرة على كل موارد الدولة، وامتلاكها الدولارات من الخارج، لتتمكن من «خدمة المواطنين» الذين هم تحت رعايتها.

 

قد يعتقد البعض أنّ هناك مبالغة في هذه الصورة. ولكن، في الواقع، لبنان موجود في قلب «الإدارة الذاتية»، علماً أنّ «حزب الله» يقيم «إدارته» منذ سنوات، وبمباركة شرعية، تحت عنوان الدفاع عن النفس. فهو يمسك جيداً بأموره الأمنية، ويقيم مؤسساته الاجتماعية والمالية وشبه المصرفية، في الداخل والخارج. وانفراط البلد سيعمّق التجربة ويعمِّمها في مناطق وبيئات أخرى.


 

هل يعني ذلك أنّ لبنان مقبل على التقسيم، بالمعنى القانوني؟

 

من سخريات الأقدار أن تكون القوى الأكثر رفضاً لأي نوع من اللامركزية هي السبّاقة إلى الممارسات الداعمة للتفكّك واقعياً. وسيكون النقاش في أنماط اللامركزية مقبولاً جداً، إذا ما قورن بالنقاش في أنماط التقسيم.