يحتار الديبلوماسيون في كيفية تفسير مواقف أركان السلطة الذين قدّروا ورحّبوا بالمبادرة الفرنسية والدعم الدولي للجيش والمؤسسات الأمنية، وفي المجالات الانسانية والاقتصادية والتربوية التي تعوّض فقدان خدمات الدولة. وإن كان ذلك كله مقابل تشكيل حكومة جديدة يمكنها ترميم علاقات لبنان الدولية واستعادة الثقة المفقودة بمؤسساتها. وعليه، ما الذي يعوق ولادتها؟ وهل اصبحت كل النصائح الدولية في سلة المهملات؟ وما هي البدائل؟
 
يخشى أحد الديبلوماسيين تصديق انّ بعض من يديرون ملف تشكيل الحكومة لا يتطلعون حتى هذه اللحظة الى مفاعيل وترددات الأزمات المتلاحقة التي تنامَت وتناسلت لتشمل مختلف وجوه حياة اللبنانيين ويومياتهم ومدى الحاجة الى حكومة بمواصفاتها الدستورية الكاملة. فهي تحولت هماً ديبلوماسياً قَبِل المعنيين به، خصوصا مَن استعاض عنه باجتماعات وهيئات تخرج عمّا يقول به الدستور، وتكرّس اعرافاً ولّدت انقسامات حادة، إلا في حال كان هذا الهَمّ هدفاً مقصوداً باتقان.


 

ولا يخفى على كثر انّ عدداً من سفراء الدول الصديقة للبنان والمؤسسات الاممية والدولية والاقليمية التابعة لها باتت تعجز عن قراءة الموقف الرسمي المُشَتت بين مرجعيات «كل مين إيدو إلو»، الى ان فقدت ثقتها بالسلطات كافة. وعلى غرار التجربة التي قادها المجتمع الدولي مع موجة النزوح السوري وإبعاد مؤسسات الدولة اللبنانية عن عملياتها، حتى تلك التي شملت المجتمعات المضيفة، تجري الاستعدادات الاممية والدولية لمواجهة مجموعة من الأزمات التي تترقّبها. وفي الوقت الذي عَبّرت فيه بعض الدول عن استعدادها لدعم المستشفيات ومَدها بالمحروقات والادوية، ارتفعت نسبة الاهتمام بتمويل المشاريع الإنمائية الصغيرة وتعزيز المهن الحرفية والصناعات الصغيرة المحلية الريفية.

 

الى ذلك، وبعد عجز وزارة التربية ظهرَ انّ هناك تفكيراً جدياً قَطعَ اشواطا بعيدة من اجل مواجهة استحقاقات قرب العام الدراسي بمختلف وجوهه، وما تستدعيه مكافحة جائحة كورونا، وما يتطلبه موسم الشتاء. فغياب الدولة التام وفقدان قدراتها المادية لا يوازيهما في استدراج الحيرة لدى الديبلوماسيين والممثلين الأمميين سوى قدرتهم على المضي بالمُماحكات السياسية، التي قد تعطّل التكليف الثالث للتأليف بعد عام وأسبوعين على استقالة الحكومة.

 


عند هذه المعطيات تتوقّف المراجع الديبلوماسية للتعبير عن مخاوفها من تَجاهل المسؤولين لمطالب ونصائح المجتمع الدولي الذين تعبوا من تكرار مواقفهم التي تَبنّت المبادرة الفرنسية أولاً، قبل ان يتعاونوا في شكل واسلوب جديدين لِحَضّ اللبنانيين على تشكيل حكومتهم بعد سقوط المبادرة قبل ايام من الذكرى السنوية الاولى لإطلاقها.

 

وإن دخل أحد الديبلوماسيين في كثير من التفاصيل، والتي تفيض على ما هو متوافر لدى اللبنانيين المنقسمين عمودياً بين تيارات وآراء متناقضة من دون عناء البحث عن الحقيقة في مكان ما، فإن نَسِي بعض اللبنانيين ما قام به المجتمع الدولي، يَجِد نفسه مضطراً الى التذكير بها، وبسخرية ممزوجة بالقلق على المستقبل جرّاء الاستمرار في الإدارة العشوائية والآنية. فهو يسأل بداية عن مغزى الانقسام اللبناني عند تفسير الظروف التي دفعت الى ما نحن فيه وما يجري من حولهم؟ ولمصلحة مَن على مساحة البلاد السياسية والحزبية والطائفية؟ ولذلك فهو يسأل: كيف يتجرأ البعض على مجاراة بعض السيناريوهات التي تتحدث عن فوز هذا الخيار الاقليمي او الدولي او ذاك في المنطقة، ويبني عليه رهانات خاطئة والتضحية بكل الفرص الايجابية التي تُجَنّب لبنان تردداتها الكبرى؟.

 

ويمضي ليقول بأسف: «ان المساعدات الخارجية التي عوّضت فشل الدولة في كل الميادين، لا يمكن تفسير هذا الفشل خناقاً على الدولة ومؤسساتها بمقدار ما هو قصاص لفشلها في التعاطي مع اللبنانيين بعدل وتوازن مفقودين. فاضطرّوا الى التعاطي مع الجيش والصليب الأحمر ومؤسسات المجتمع المدني التي قامت بأدوار كبيرة في المجالات الانسانية والانمائية الكارثية، مهما سجّل فيها من خروقات واهمال وربما اعمال سرقة للتمويل الدولي، فمنهم من تعرّض للتوبيخ وآخرون خضعوا لعقوبات مباشرة نتيجة التلاعب بالهبات الدولية والأممية». ويضيف: «انّ فقدان القدرات المالية لدى الدولة ومؤسساتها وخزينتها كان من صنع اللبنانيين أيّاً كان المتورطون فيه، من المتموّلين النافذين وأصحاب مصارف، وهو ليس من انعكاسات ونتائج «قانون قيصر» الذي يعني سوريا وحدها، ولا من «قانون ماغنيتسكي» الذي يطاول اشخاصاً لا كيانات ولا مؤسسات ولا أحزاب أيّاً كانت أدوارهم ومواقعهم».


 

ولذلك، هل يمكن ان ينسى اللبنانيون المساعدات الخليجية والعربية والغربية وصولاً الى تشيلي، التي أعادت بناء المستشفيات والأحياء المدمّرة وأعانت العائلات المنكوبة ومَّدت البلاد بكل اشكال المساعدات الانسانية والطبية الفورية وافتتحت المستشفيات الميدانية، والتي لا تُقارَن بتدخلات دول أخرى بطريقة مغايرة ولفئات محددة، من دون ان ينسى المساعدات التي أقرّت في مؤتمرات باريس بعد روما وبروكسل، لدعم الجيش والقوى العسكرية والأمنية، وهي متهمة من فئة كبرى بأنها تحاصر لبنان.

 

ولِمَن يستخدم ما جرى في أفغانستان للحديث عن انهيار اميركي وغربي لمصلحة مشروع دولة «طالبان» ومحور الممانعة، يقول الديبلوماسي: لا يمكن الجزم بنتائجه حتى اليوم، وعلى من يحاول الجزم من اليوم بخسارة اممية ودولية مدوية ان يقارن بين ما جرى في لبنان حيث الدولة الفاشلة كما الحكومة الأفغانية فحصل ما حصل، وهو ما كان متوقعاً في حسابات دول اخرى غير تلك التي أخلت افغانستان من قواتها. والدليل ما قامت به الصين وروسيا وايران وتركيا وغيرها استِباقاً لما ستواجهه من استحقاقات بعد انسحاب القوى الغربية.

 

وعليه، من قال انّ واشنطن فشلت، بَدل القول انها تركت مستنقع أفغانستان لخصومها، والفصل في ذلك يحتاج الى مزيد من الصبر والوقت لِفَهمه، وكذلك مَن جَنى ومن يستعد لإحصاء الخسائر التي عليه ان يتحملها. فجيرانها كثر، والمتأثرون بسيطرة «طالبان» يحتسبون ما ينتظرهم، فيما تكتفي القوى الغربية بأجلاء مواطنيها وكل من هو في خطر. ألم يشكر لبنان قبل ايام الهند لأنها نقلت لبنانيّاً كان يَستشعِر الخطر الى نيودلهي؟


 

والى مَن يتلهّون بالتعليمات الاميركية للمعارضة لإدارة وتوزيع المهمات والأدوار بِهدف زرع التوتر، عليهم ان ينتبهوا قليلاً الى ان ليس كل ما يقال سيُبنى عليه، فمساعي الإدارة الأميركية ومعها المصرية وبعض دول الخليج دعماً للمبادرة الفرنسية رغم انهيارها وتَبخّر ما قالت به من خريطة طريق كان يمكن، لو التزم بها اللبنانيون كما تعهّدوا، أن يكون لبنان في مكان آخر اليوم على طريق التعافي والإنقاذ. ولِمَن يتحدث عن دور أميركي في إنعاش خط الغاز المصري في اتجاه لبنان رداً على استجرار المازوت والبنزين الايراني، عليه ان يتذكر ان مشروع الربط الكهربائي السداسي قديم، ومضى عليه عقدان من الزمن، ومَن أحياه هو الملك الاردني عبدالله بن الحسين، وأنّ مبادرته هي التي تكفلت بتأمين الموافقة السورية وليست مهمة اللبنانيين. ولمن يُحمّل جيفري فيلتمان مسؤوليات في الإدارة الأميركية، عليه ان يتذكر انه خرج من الخارجية الاميركية منذ 12 حزيران 2012 عندما عَيّنه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مسؤولاً عن الشؤون السياسية.