بديهي أن ينظر المراقبون باستخفاف، بل بسخرية، إلى وعود العقوبات الأوروبية على منظومة السلطة. فمنذ انفجار المرفأ، قبل 11 شهراً، يُهدِّد الفرنسيون بفرض عقوبات على المنظومة الفاسدة التي تتحمّل المسؤولية عن الانفجار وتُمْعِن في دفع لبنان إلى الانهيار. ولكن، على أرض الواقع، لا عقوبات ولا مَن يعاقبون، وتبدو المنظومة حيّة وتُرزق. وفي أفضل الحالات، يمكن تشبيه الوعود الفرنسية بـ»قَرْصَةِ نملة في قَدَمِ فيل»! فهل سينام الأوروبيون على وعود العقوبات في لبنان، أم سيضطرون في النهاية إلى توحيد خطواتهم مع الأميركيين؟

 

المعلومات التي توافرت في الساعات الـ48 الفائتة أفادت أنّ سفراء دول الاتحاد الأوروبي المعتمدين في بيروت، كُلِّفوا إرسال اقتراحاتٍ تفصيلية ومحدَّدة إلى إداراتهم المعنية، تتضمَّن رؤية كلّ منهم إلى العقوبات: ماذا تتضمن، ومَن تستهدف، وما تأثيراتها المحتملة؟

 

السفراء مُنِحوا مهلّةً أقصاها العاشرة صباح أمس الإثنين لإنجاز الردود المطلوبة، تمهيداً لمناقشتها في اجتماع دول الاتحاد في بروكسل، الخامسة عصر أمس، على مستوى الإدارات المعنية، بهدف توحيد الخطوات الأوروبية في هذا الملف والانتقال به من وضعية المراوحة إلى الحسم.

 

المصادر الأوروبية المواكبة تقول: «هناك توافق بين الدول الأعضاء على الدخول في خطوات عملية فاعلة، ولكن ما يعوق التنفيذ هو موقف باريس التي تبقى متردِّدة في التعاطي مع منظومة السلطة في لبنان، وتفضِّل منح المسألة مزيداً من الوقت، لعلّ الضغوط تنجح في تحقيق الحلول «على الناعم» وبأقلّ الأثمان».

 

وفي عبارة أخرى، هناك رغبة غالبة لدى الأوروبيين في أن يحسم الفرنسيون أمرهم ويبادروا معاً إلى فرض العقوبات. فالفرص التي أعطاها الرئيس إيمانويل ماكرون للمنظومة السياسية للدخول في الإصلاح، منذ ما قبل مؤتمر «سيدر» في العام 2018، قوبلت في بيروت بالمناورات وبمزيد من المماطلة. حتى إنّ تهديدات ماكرون المباشرة بفرض عقوبات، بعد 4 آب الفائت، قابلتها القوى السياسية بالاستخفاف وبالرهان على أن باريس لن تذهب جدّياً إلى فرض العقوبات.

 

المصادر تقول: «ليست لدينا شكوك في نيّة الفرنسيين، لكنهم يبالغون في مراعاة الطاقم السياسي الممسك بالسلطة، على الطريقة اللبنانية. وهم يغضّون النظر عن تجاوزات هذا الطاقم أملاً في صوغ توافقات سياسية، كيفما كانت. وتشجعهم على ذلك قوى لبنانية، من داخل السلطة وخارجها، تجد أنّ من مصلحتها ذلك، وترفع شعار البحث عن مخارج وتسويات، ولو ظرفية، لأنّ ذلك يتلاءم مع توازنات القوى القائمة حالياً في الشرق الأوسط وخصوصيات الواقع اللبناني».

 

مشكلة الأوروبيين أنّ القرار بالعقوبات، على مستوى الاتحاد الأوروبي، لا تكفيه الغالبية من الأعضاء، بل يحتاج إلى الإجماع. ولذلك، يبدو موقف باريس حيوياً. وفي الدرجة الثانية، هناك حاجة إلى إقناع هنغاريا «المتردِّدة»، لاعتبارات مختلفة داخلية وأوروبية.

 

إذاً، يغرق الأوروبيون في مأزق المراوحة، ويعجزون عن حسم قرارهم في ما يتعلق بالعقوبات على لبنان. فمن جهة، تتمتع فرنسا بموقع قيادي بكل المعايير داخل الاتحاد، ولا يمكن تجاوزها. ومن جهة أخرى، هي «صاحبة الامتياز» الأساسي تاريخياً في لبنان. وثمة تسليم أوروبي بمراعاة هذا «الامتياز» حتى النهاية.

 

ولكن، هناك مَن يعتقد أنّ ماكرون يلعب أيضاً ورقة المصالح في لبنان: مصلحة فرنسا بين الجبابرة المتنازعين على الشرق الأوسط وحوض المتوسط، ومصلحة زعامته الشخصية كرئيس قوي يؤتَمَن على المصالح الفرنسية، قبل 10 أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية.

 

واقعياً، العامل الوحيد الذي يمكن أن ينهي وضعية المراوحة الأوروبية هو الموقف الأميركي. وتحديداً، تبقى «الكلمة السرّ» في ما يمكن أن يتمّ التفاهم عليه بين باريس وواشنطن. فمنطق العقوبات هو في الأساس أميركي، والأوروبيون مدعوون إلى الالتحاق به، في سياق المواجهة الكبرى التي تخوضها واشنطن ضدّ طهران، والتي بلغت ذروة السخونة في عهد الرئيس دونالد ترامب.

 

وخلال زيارة الرئيس جو بايدن لأوروبا، الشهر الفائت، كان ملف العقوبات والمواجهة مع إيران بنداً أساسياً على الطاولة مع الحلفاء هناك. وفيما تبدو مفاوضات فيينا في وضعية المراوحة، فقد اعترف الجميع بأنّ الأزمة الأميركية - الإيرانية مرشحة لأن تطول.

 

المتابعون لتوجّهات الإدارة الأميركية يقولون إنّها ستمضي في اعتماد سياسة «العصا والجزرة» في الملف الإيراني. فإذا كان الإيرانيون يعتقدون أنّ بايدن سيتهاون في مسألتي النفوذ الإقليمي والصواريخ البالستية مقابل تسهيل العودة إلى الاتفاق النووي، وأنّه سيتغاضى عن الضمانات الكفيلة بضبط الطموح الإيراني في الشرق الأوسط، فإنّهم سيكتشفون مراهنتهم على سراب.

 

وفي الواقع، إنّ ما كان يهدِّد به ترامب «المتصلّب» بتغريدة على «تويتر» يلتزم بايدن «المتساهل» بتنفيذه على الأرض. وتبدو الولايات المتحدة في صدد جولات جديدة من المواجهة مع إيران وأذرع نفوذها الممتدّة عبر الشرق الأوسط، و»حزب الله» أقواها. ومن هذه الزاوية، يصبح متوقعاً أن يمارس الأميركيون ضغوطاً على حلفائهم في أوروبا، وعلى الفرنسيين تحديداً، للسير في خطوات عقابية في لبنان.

 

وفي هذا السياق، ستكون حيويةً زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الأسبوع المقبل، لنيويورك وواشنطن، حيث يلتقي نظيره أنتوني بلينكن ومسؤولين كباراً في الإدارة. وبديهي أن يكون الملف الإيراني والعقوبات حاضراً بكل متفرعاته، بما في ذلك لبنان.

 

وفي الخلاصة، ليس معروفاً متى يبدأ الأوروبيون عقوباتهم على لبنان. لكن المواكبين للتحرُّك الأميركي يجزمون أنّ التغيير المطلوب في لبنان سيتحقق عاجلاً أو آجلاً، وأنّه لن يستثني واحداً من أركان منظومة السلطة. فهؤلاء جميعاً معنيّون بالفساد، في شكل أو في آخر.