أحد أركان هذه السلطة عطّل البلاد ليجلس على كرسي لا يقبل أن ينافسه عليه أحد. والثاني ارتبط بكرسي قبل الميلاد، وقد تحل القيامة الا قيامه عنها. والثالث يقول إنه مرشح طبيعي للكرسي، وكأن الآخرين مرشحون غير طبيعيين. ورابعٌ يسرح و يمرح بين الكراسي وكأنه قدر اللبنانيين دون قضائهم، وهو الذي لم يستطع أن يجتاز بلدية بإنتخابات فعلية.
 

   عهود تطوى وانجازات تؤكد أن ما ينفع الناس يبقى، وأما الزبد فيذهب جفاء. إن بين "ما ينفع" وبين "الزبد" سمات اتسمت بها بعض العهود في لبنان؛ على سبيل المثال اتسم عهد الرئيس كميل شمعون بالازدهار الاقتصادي، كان قوي العزم والحسم، حالف الغرب وصادق الشرق، فتدفقت الأموال الى لبنان في بيئة آمنة. وضع حجر الأساس للكثير من المشاريع؛ كازينو لبنان، المدينة الرياضية... أقرضَ لبنان الهند مئة مليون دولار! عُرف بفتى العروبة الأغر، تميز بدهاء سياسي وحنكة ورشاقة دبلوماسية مكنته من تجاوز الأزمات.

 

 

   أما عهد الرئيس فؤاد شهاب فاتّسم بتطوير الادارة وتحديث الدولة من خلال المؤسسات التي أنشأها أسوة بالدول المتقدمة. حافظ على حياد لبنان، ويشهد على ذلك اجتماع الخيمة الشهير مع الرئيس عبد الناصر. لم يتجرأ أحد من عائلته أن يتدخل في أعماله، وانعكست سياسته في الاقتصاد حيث صُنف لبنان سنة 1963 رابع دولة عالمياً في تحقيق الازدهار. وبلغ لبنان في عهد الرئيس شارل حلو ذروة مجده الاقتصادي، وكان الرئيس يفتخر بالحرية والديموقراطية في عهده.

 

 

 ثم كان عهد الرئيس سليمان فرنجية الذي رفع شعار؛ أيها اللبنانيون ناموا وابوابكم مفتوحة، لكن الحرب انفجرت وأغلقت معظم الأبواب. الى أن لمع عهد الرئيس الياس سركيس كالذهب الخالص الذي كنزه في خزينة لبنان ليكون "عونا" للشعب. في نهاية عهده اجتاحت اسرائيل لبنان، وفي ظروف استثنائية بدأ عهد الرئيس أمين الجميّل الذي رفع شعار "أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم "، لكن الأشقاء قبل الأعداء أفلحوا في تزكية المعارك وحولوا الشعار الى عبث وسراب. انتهت الحرب وأقر اتفاق الطائف، وبقيت مناقشات ومحاضر الاجتماعات محفوظة، ولم تنشر الى اليوم، لأن الثقافة السائدة لم تستوعب بعد عمق هذه الخبرة لندرك معنى قول الرئيس حسين الحسيني "ان وثيقة الطائف لم تقرأ ولم تفهم جيداً". 

 

 

   بعد الطائف، اغتيل الرئيس رينيه معوض قبل أن يبدأ عهده، ومن المفارقات أن عهد الرئيس إلياس الهراوي تميز بالصفعة التي تلقاها منه أحد الصحفيين.

 


   إنفرد لبنان في محيطه العربي بأنه البلد الوحيد الذي يعيش فيه رئيسٌ سابقٌ كمواطن في ظل رئيس حالي. ومع الوصاية، جرى إستيراد مبدأ "التمديد"، فكان عهد الرئيس إميل لحود، الذي عرفنا أنه "من فرح الناس جايي، مرفوع الراس جايي". وقع في عهده إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكانت  "رذالة" غطت على ما عداها وما تلاها. إلى أن ابتدعت تسوية الدوحة نظرية "الديمقراطية التوافقية"، وكانت عجيبة غريبة انتجت عهد الرئيس ميشال سليمان الذي تميز عهده بـ "إعلان بعبدا" والنأي بالنفس. والميزة الأكثر عجبًا هي السرعة التي تم بها "نقع"  أوراق "الإعلان" في الماء لتبتل قبل أن يجف حبره، وليشربه اللبنانيون علقماً فيما بعد. 

 

 

   وبعد ألف جلسة وجلسة، والانتخاب غير المتاح، والصمت المباح، ومن وجع الناس جرى إستنخاب الرئيس ميشال عون حيث رفع شعار العهد القوي، الذي ترافق مع إنهيارات في الجمهورية القوية، عبر عنها فخامة الرئيس بجوابه على احدى الصحفيات إلى جهنم. ثم أكد البنك الدولي جواب الرئيس بأن لبنان يغرق في أسوأ أزمة يشهدها العالم منذ قرون. 

 


   الآن أخرج من نفسك وانظر إليها كأنك ترى أننا وصلنا إلى جهنم بفضل تكامل وتضامن وتعاضد هذه السلطة التي أحالت السياسة والإدارة والإقتصاد والقانون والجمهورية إلى أوهام يقتاتها اللبنانيون سمًّا زعافًا، لأنها سلطة تحكمها رغبات جامحة، تأتي على شكل نوبات متواصلة، لحكم البلاد ولو فوق الحطام. وهذا نمط إستفزازي وسلوك عدواني ذو سمتين:


   الأولى؛ ميلها الى إخضاع الخصم لها والإستمتاع بإهانته، وتميل إلى أن تكون ظالمة. 

 


   والأخرى؛ تقبلها الخضوع والاهانة، وتميل الى أن تكون مظلومة . 


   هذه المنظومة مجتمعة تخطت المعقول بأدائها اللامعقول. إنها سلطة "سادي-شستية"، واذا كانت كل حالة منها مرضًا قائمًا، فكيف إذا اجتمعت الحالتان في منظومة واحدة؟ النتيجة أن هذه السلطة قد تملّكها شعور مضخّم بحاجة المجتمع إليها، وبأهميتها الإستثنائية. تتمظهر هذه الحالة في استعراض الحكومة لإنجازاتها ومواهبها بأقوال محكيّة وأفعال غير مرئيّة.

 


   أحد أركان هذه السلطة عطّل البلاد ليجلس على كرسي لا يقبل أن ينافسه عليه أحد. والثاني ارتبط بكرسي قبل الميلاد، وقد تحل القيامة الا قيامه عنها. والثالث يقول إنه مرشح طبيعي للكرسي، وكأن الآخرين مرشحون غير طبيعيين. ورابعٌ يسرح و يمرح بين الكراسي وكأنه قدر اللبنانيين دون قضائهم، وهو الذي لم يستطع أن يجتاز بلدية بإنتخابات فعلية. 

 


   ما يجمع هؤلاء هو استثمار المشاعر الدينية والطائفية، بصورة انفعالية من أجل الحصول على مكاسب سياسية، بخفة وتفاهة، تغطيها الطحالب التي عملوا على إستنباتها لتشكل سياجاً لهم. وهذا إبداع. واحتكار الإبداع يتطلّب أنانية مفرطة، ومخيلة مريضة، لا توصّف الا بخردة أوصلت لبنان إلى أن يكون في ذيل الدول بعد ان كان على رأسها.

 

 

   ختامًا؛ سأل المنصور أحد حكماء بني أمية عن سبب سقوط دولتهم فأجابه؛ أمورنا الكبيرة سلمناها للصغار، و تركنا أمورنا الصغيرة للكبار، فضعنا بين إفراط وتفريط .