سأل أحد السياسيين الظرفاء في مجلس خاص: «هل تعرفون لماذا يفضِّل رئيس «التقدمي» وليد جنبلاط أن يبقى دائماً في وضعية الدوران حول النفس؟» واستطرد بالإجابة: «هذه الطريقة تكفَل للمرء أن يرى الأشياء في كل الاتجاهات، لحظةً بلحظة. لكن الأهم هو أنّها تُبقي الرأسَ محميّاً خلف الأكتاف»!

 

ارتفعت حدَّة الهواجس لدى جنبلاط في الفترة الأخيرة، ويبدو راغباً في التصرُّف سريعاً، وفق ما تقتضيه المصلحة. وهذا السلوك ليس غريباً عن الرجل في أزمنة التحوُّلات الطارئة، منذ أن دخل السياسة على عجل، وفي شكل مفاجئ، بعد اغتيال والده كمال جنبلاط في العام 1977.

 

بفضل هذا السلوك، تمكَّن جنبلاط من «التعايش» مع دمشق لسنوات طويلة، على رغم الترسّبات التي تركها الاغتيال. وعندما أدرك أنّها ستبقى الأقوى في لبنان، بتغطية إقليمية ودولية، تحالف معها وأقام الجبهات مع حلفائها، ما أتاح له الفوز في معارك السياسة والعسكر خلال الثمانينات، ولا سيما منها حروب بيروت والشحار والجبل.

 

بعد الطائف، توقَّف المدفع بتغطية عربية ودولية كاملة، وتلزيم سوري. وهكذا، اقتنع جنبلاط بأنّ قدَره هو الاستمرار في الحضن السوري. وكان الأكثر تدلُّلاً في الانتخابات والتعيينات والحصص، وصيغت قوانين الانتخاب والحكومات على قياسه.

 

عندما تغيَّر مناخ الشرق الأوسط بعد 11 أيلول 2001 والحرب في العراق، وبدا أنّ إدارة الرئيس جورج بوش في صدد انتزاع الوصاية السورية عن لبنان، رأى جنبلاط أنّ الوقت قد حان لتغيير الموجة، بعد طول انتظار، وتحالف مع الرئيس رفيق الحريري والقوى المسيحية.

 

قبل أن يدفع الحريري ثمن المواجهة في شباط 2005، كان مروان حمادة باكورة الرسائل السورية. وكان جنبلاط الأشرس في مواجهة دمشق، وتلا «فعل الندامة» على فترة التعاون الاضطراري معها.

 

ولكن، سرعان ما اكتشف جنبلاط أنّه يحتاج إلى التوازن بعد 7 أيار واتفاق الدوحة 2008. وفي ربيع العام 2010 زار دمشق بعد غياب طويل والتقى الرئيس بشّار الأسد.

عادت المعنويات إلى جنبلاط بعد اندلاع الثورة في سوريا. وراهن كما سائر قوى 14 آذار على سقوط النظام. لكن الرياح جرت لمصلحة الأسد وطهران و»حزب الله» في لبنان وسائر الشرق الأوسط.

 

ومنذ 17 تشرين الأول 2019، تعرَّض «الحزب» لضغوط مارستها إدارة الرئيس دونالد ترامب. ولكن، مع وصول بايدن، تبدّل المشهد، وبات جنبلاط مضطراً- كما كثيرون- إلى مراجعة الحسابات مع دمشق، لأنّ الظرف خطِر ولا يتحمّل المغامرات.

 

إذاً، فشل جنبلاط في رهاناته مجدداً. وأدرك أنّه سيدفع ثمناً باهظاً إذا لم يسارع إلى ترميم المسألة. وليس أفضل من صديقه الرئيس نبيه بري للمساعدة. ولذلك، هو يتعمَّد تظهير موقفه الجديد برسائل سياسية قوية، فيهادن «الحزب» والعهد، ويبتعد عن الحليفين (المفترضين) الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع.

 

العارفون يقولون إنّ جنبلاط يتلمّس أنّ المخاض العنيف الذي يعيشه الشرق الأوسط، مع بايدن، سينعكس حتماً على لبنان من خلال «طبخة» لم تظهر بعد تفاصيلها في شكل كافٍ. وهذا مغزى دعوة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان للقوى السياسية كي تتعاطى مع التحوُّلات الإقليمية بحكمة، فلا تأتي على حساب استقرار لبنان وكيانه.

 

في التجارب السابقة كلها، فشلت هذه القوى في التقاط الفرص المتاحة، وكان لبنان ضحية النزاعات بين المحاور، ثم ضحية التسويات بينها. وكثير من السياسيين دفع أثماناً باهظة عند تقلّب موازين القوى في الداخل.

 

قرَّر جنبلاط اللجوء إلى جرعة إضافية من البراغماتية، المعروف بها والبارع في اعتمادها. وهو اليوم يترقّب مسار الاشتباكات والمفاوضات وخطوط التواصل المتشابكة، تحت الطاولة وفوقها، بين الولايات المتحدة وإيران والخليجيين العرب وسوريا وإسرائيل وروسيا، من فيينا إلى بغداد ودمشق وصولاً إلى غزّة. ويتأمل في خلفيات المواجهات السياسية الجارية على الساحة اللبنانية بين رموز دمشق وخصومها، والإشكالات الميدانية في يوم تجديد البيعة للأسد، وطبعاً أصداء العرض الذي أجراه الحزب السوري القومي الاجتماعي قبل يومين في الحمرا.

 

هل هو قَدَر جنبلاط أن يمضي حياته السياسية، «على حافة النهر»، في انتظار جثة الخصم، كما قال ذات يوم… لكنها لا تَصِل؟

بين 1977 و2021، 44 عاماً أمضاها جنبلاط في الرهانات المتعبة والمكلفة. واليوم، إذا أنتج اللبنانيون تسويتهم بأنفسهم، فسيتمكن الرجل من التقاعد بأمان، تاركاً لنجله تيمور متابعة المسار. ولكن، إذا فشلوا في التفاهم، فسيصبح الحلّ مادة تفاوض بين القوى الإقليمية والدولية. وفي العادة، تفرض هذه القوى حلولها الجاهزة على لبنان. وأحياناً، يجري منح دمشق أدواراً أساسية في رعاية التنفيذ.

 

القلق الذي يصيب جنبلاط وآخرين يكمن في تداعيات الانهيار وتلاشي المؤسسات، وما يمكن أن يقود إليه من فوضى اجتماعية وأمنية يجري استغلالها. ولذلك، هو يحذّر من افتعال فتنة طائفية أو مذهبية. والخط الأحمر عنده هو ضمان استقرار التعايش المسيحي- الدرزي في الجبل، ومنع التصادم مع «حزب الله» وبيئته الشيعية. ولجان التنسيق مستنفرة دائماً لهذه الغاية.

 

المرحلة حافلة بالمفاجآت. وحتى انقشاع الرؤية، يحاول جنبلاط أن يتوازن استعداداً لخطوات جديدة محتملة. وهو يريد التيقن من المكان المناسب لكي يضع قدميه. فالوقت المتاح لم يعد يسمح بتصحيح «الدعسات الناقصة».