إنقسمت القوى السياسية والأوساط الشعبية حول تجمّع بكركي وخطاب البطريرك الماروني بشارة الراعي، السبت الماضي، في استعادة لتجارب الساحات المتنازعة والتواريخ المتنافسة، بعدما كانت الأوراق قد اختلطت والاصطفافات قد تعدّلت خلال السنوات الماضية.

لكن، وعلى الرغم من العودة إلى التمترس في الخنادق السياسية المتقابلة، الّا انّ هناك انطباعاً بأنّ مزاج غالبية الناس بات في مكان آخر بفعل الأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والخدماتية التي فرضت عليهم أولويات مغايرة لما كان سائداً في مرحلة ما قبل الانهيار.

 

والأرجح، انّ الاشتباك المندلع بين مؤيّدي بكركي وخصومها، هو في الأساس بدل عن ضائع حكومي في وقت الفراغ. ولو انّ الحكومة تشكّلت في التوقيت المناسب لذهبت الأجندة الداخلية في اتجاه آخر، ولما كان هناك من مبرر اصلاً للسجال حول خيار التدويل وعقد مؤتمر برعاية الأمم المتحدة.


 
 

وعليه، هناك من يعتبر انّ الوظيفة الحقيقية للدعوة التي أطلقها الراعي الى تدويل الأزمة والحل، انما هي الضغط على المعنيين لتشكيل الحكومة تحت طائلة الاستعانة بالأمم المتحدة، «أما الطرح في حدّ ذاته فهو غير ممكن التطبيق لأسباب داخلية وخارجية على حدّ سواء. إذ انّ متطلبات انعقاد المؤتمر الدولي ليست متوافرة، لا على الصعيد المحلي، حيث يوجد انقسام حاد في شأنه، ولا على الصعيد الدولي، حيث لم تظهر اي مؤشرات الى احتمال حصول توافق على ضرورة عقده بين عواصم القرار».

 

ولعلّ تصريح نائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في ​لبنان​ نجاة رشدي، يعكس هذه الحقيقة بوضوح. فهي قالت إنّها اوضحت للراعي انّ قرار المؤتمر الدولي لا يعتمد فقط على الامم المتحدة بل على اطراف دولية تكون مستعدّة للمشاركة، وعلى تحرّك وقبول على الصعيد الداخلي اللبناني. مؤكّدة انّه لا يمكن للامم المتحدة ان تتولّى دور اللاعبين السياسيين اللبنانيين، أو ان تحلّ محلّ الدولة، ومضيفة: «لن يكون هناك مؤتمر دولي فقط لأنّ البطريرك طلب ذلك وحيداً أو لأنّ الأمم المتحدة قرّرت».

 

ومع ذلك، فإنّ المتحمسين لمبادرة الراعي بشقيها الحيادي والتدويلي، يجدون فيها خشبة الخلاص الوحيدة، بعد ثبوت عجز القوى الداخلية وفشلها على كل المستويات، مشيرين الى انّ هذه المبادرة ليست سبباً لمشكلة اضافية، وإنما هي نتيجة لمشكلة متمادية تتمثل في الإخفاقات المتراكمة للسلطة والطبقة السياسية وصولاً الى عدم القدرة على تشكيل حكومة إنقاذية هي أضعف الإيمان وأقل الواجب في مثل الظروف الحالية.

 

ويستغرب هؤلاء كيف انّ البعض لا يريد أن يتحمّل مسؤولياته في معالجة الأزمات المتفاقمة، ولا يريد في الوقت نفسه الاستعانة بمساعدة دولية للتعويض عن العجز الداخلي، متسائلين عمّا اذا كان يجوز ترك الدولة والوطن يتحلّلان من دون فعل شيء لإنقاذهما؟

 

الّا انّ اوساطاً معارضة لطرح بكركي تلفت الى انّ بعض السلوكيات التي رافقت تجمّع السبت في باحة الصرح البطريركي، أضرّت بمبادرة الراعي وأضعفتها، الأمر الذي أعفى خصومها من عبء بذل جهد كبير لإسقاطها.


 

ومن نقاط الضعف التي تتوقف عندها تلك الاوساط، صمت الراعي المطبق وعدم صدور اي ردّ فعل عنه إزاء الهتافات التي علت من ساحة الصرح مطالبةً برحيل رئيس الجمهورية ميشال عون وموجهةً إساءات شخصية اليه، «بينما كان يُفترض بالبطريرك ان يرفض التعرّض لعون في حضوره، انطلاقاً من رمزية مقام الرئاسة وتجنباً لإحداث مزيد من الشقوق والتفسّخ في الصف المسيحي الذي لطالما سعت بكركي الى ترميمه».


 
 

لكن المدافعين عن بكركي يستهجنون ان تُلقى عليها تبعات هتافات او تصرفات بدرت عن بعض المحتشدين في الصرح، معتبرين انّه جرى تحميل هذا الأمر اكثر مما يتحمل، «بدل ان يتمّ ايلاء العناية اللازمة لجوهر خطاب الراعي الذي تضمن مكاشفة بليغة، وكأنّ هناك من حاول الهروب من صراحة المضمون الى التلهّي بجزئيات الشكل».

 

وأبعد من الإطار المسيحي، يتساءل قريبون من 8 آذار: «كيف يوفق البطريرك الماروني بين الدعوة إلى الحوار والتفاهم، وبين السماح بتوظيف التجمّع تحت مظلته لمهاجمة «حزب الله» وشتمه؟ وهل بهذه الطريقة يتمّ التسويق لمبادرته وإقناع الآخرين بها، ولا سيما منهم الطرف المعني بها والموجّهة اليه، اي الحزب؟».

 

ووفق هؤلاء، كان يجب أن يرسل الراعي من منبر البطريركية ذبذبات سياسية إيجابية في اتجاه الحزب، لمحاكاة هواجسه ونفي صحتها، «الّا انّ ما حصل هو العكس، إذ انّ المنحى الذي اتخذه تحرّك بكركي وخطاب سيدها أدّيا إلى تعزيز تلك الهواجس وإثبات صوابيتها».

 

ويتوقف اصحاب هذا الرأي عند مفارقة لافتة، تكمن في اطلاق الراعي الدعوة الى الحياد، «بينما ذهب هو نحو اصطفاف سياسي الى جانب فئة ضد أخرى، وسمح لـ»القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب» بأخذ مبادرته في الاتجاه الذي يناسبهما».

 

وبعدما بدا خلال الأيام الماضية انّ حارة حريك تتقدّم صفوف المتصدّين لدعوة البطريرك الى الحياد والتدويل، يعرب قطب في 8 آذار وصديق لـ»حزب الله» عن اقتناعه بأنّه كان من الأفضل لو تجاهل الحزب مواقف الراعي وتفادى الردّ المباشر عليها «لأنّه ليست له مصلحة في إعطاء مادة دسمة لخصومه داخل البيئة المسيحية، لكي يستنفروا بعض الجمهور المسيحي ويظهروا في موقع المدافع عن بكركي في مواجهة هجوم شيعي عليها».

 

ويعتبر القطب إيّاه، انّ الخلاف الحقيقي هو في أساسه ماروني- ماروني، اي بين البطريرك من جهة ورئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» من جهة أخرى، «فلماذا بادر الحزب الى الإنخراط فيه، مسهّلاً مهمة المتربصين به، ولماذا لا يترك لحليفه البرتقالي امر إدارة لعبة المدّ والجزر مع بكركي التي هو أدرى بشعابها؟».

 

وضمن سياق متصل، تنبّه شخصية مسيحية داعمة للتيار، الى انّ تولّي «الحزب» الردّ على الراعي يُحرج حليفه المسيحي ولا يساعده، مشدّدة على ان ليس هناك من داع اصلاً ليقلق الحزب او يتوتر، «لأنّ طرح بكركي يواجه صعوبات موضوعية من شأنها عرقلته، من دون أي تدخّل للحزب».