«حيث يكون الخطر تكون الرعاية»

(الشاعر الألماني فريديريش هولدرلين)

ما لنا وتقرير ما هو حق وما هو حقيقة، فالحقيقة والحق لا يمكن أن يكونا في المطلق، بل هما مرتبطان بعوامل متعددة من المكان والزمان والتاريخ والجغرافيا والتجارب الشخصية والحالة النفسية، وقد تكون الحقيقة مجرد توافق مرحلي بين مجموعات من البشر... ولكن جلّ ما يمكن قوله هو أنّ البشر مختلفون، وكل واحد منهم قد يبتكر لنفسه عقيدة خاصة به، حتى عندما يكون منتمياً الى عقيدة شمولية، فمن يعرف في الأساس ما يضمره حتى عندما يعلن. وقد تتكون عقائد جماعية بناء على مفاهيم مشتركة، فتصبح هذه العقائد «الحقيقة» الرسمية للمجموعة. والجدير ذكره، أنّ هذه الإقتناعات التي تمثل «الحقيقة» لمجموعة ما، قد تتناقض جذرياً مع إقتناعات أخرى لجماعات أخرى، هي بالنسبة اليهم حقيقة مطلقة. هذا التعدّد في الحقائق المطلقة لدى البشر لا يعني أبداً أنّ الحقيقة زائفة، بل تعني أنّ الحقيقة ما هي إلاّ علاقة جدلية بين من يصدّقها ومجتمعه وشخصه وتاريخانيته الفردية والمجتمعية. لكن على رغم من اعتناق حقائق مطلقة، فإنّ معظم البشر على رغم من إيمانهم، يعترفون أنّ جوهر الحقيقة المطلقة الكونية ما زال مجهولاً. فحتى معتنقي مبدأ البيغ-بانغ في الخلق، يعترفون أنّ ما قبله لا يمكن معرفته أو فهمه، لا بل السؤال هنا هو هل من الضروري فهمه؟

 

ما لنا ولكل ما سبق، فالحديث اليوم هو عن «لبنان الكبير»، ومئويته التي تأتي اليوم عليه وهو يبدو هَرِماً ومريضاً ومرتبكاً، وحتى خجلاً من وعوده التي قطعها للبشر يوم أن غامر البطريرك الياس الحويك بإدخال التعددية المذهبية والطائفية عليه. والتعددية في المجتمع هي اجتماع مجموعات مختلفة، تحمل حقائق مختلفة في وحدة جغرافيا محدّدة. وتكون التعددية حالة مرغوبة في حال تمكنت المجموعات المختلفة من التعايش في سلام وتفاهم واحترام ضمن الوحدة الجغرافية، بحيث ينتج تواجه الحقائق بعضها مع بعض، إما قبول كل مجموعة إقتناعات الأخرى، أو تفاعلاً يؤدي الى نشوء حقائق جديدة تكون نتاجاً للحوار الإلزامي ما بين المجموعات، وهذا ما يدعى تلاقُح الثقافات.


 
 

أما الكارثة، فهي عندما تحاول إحدى المكوّنات تذويب الحقائق الأخرى من خلال الإكراه أو من خلال الإفناء، وهي الحالات التي تشكّل معظم تاريخ البشرية المعروف. وهنا الحديث لا علاقة له فقط بالخيارات الدينية، بل هو في غالب الأحيان مرتبط بخيارات المجموعات السياسية العلمانية. وهنا يكفي مراجعة الحروب العالمية والإقليمية في القرن العشرين، لنتأكّد من أنّ الخلافات الإيمانية لا تُذكر إلاّ في الإعلام الموجّه كسبب للحرب، أما في الحقيقة فلا الشيوعية ولا النازية ولا الملكية ولا الجمهورية ولا الديموقراطية كانت تستند إلى مسائل دينية، وإن كانت تتصرّف كأديان.

 

وقد يخطر ببال البعض أنّه، تجنباً للعنف وخطر الفناء، وبما أنّ الحقائق في المحصلة هي غير ثابتة، لم لا تخضع الأقليات أو المجموعات الضعيفة لسلطة الأقوى و»حقائقه»، فيأتي الجواب أنّ الحرّية قد تكون من أكثر الدوافع الإنسانية شراسة وقوة، لذلك فليس من المستغرب أن ترى الآلاف والملايين من البشر يضحّون بحياتهم وبراحة بالهم، وحتى بفلذات أكبادهم، حفاظاً على حرّية معتقدهم وشعائرهم التي يرون فيها وجودهم.

 

لبنان كان ملجأ الساعين الى الحرّية! وهذا بالضبط ما دفع الموارنة منذ نحو خمسة عشر قرناً الى ترك بيوتهم وأراضيهم في سوريا، بعد المجرزة التي حلّت برهبانهم، لينتقلوا للعيش في جبل لبنان دفاعاً عن «حقيقتهم» المتمثلة يومها بالقناعة «الخلقيدونية». بالمحصلة، فإنّ جبال لبنان أصبحت على مرّ الدهور ملجأ لكل الشعوب المستضعفة والتي أتت لتحمي «حقائقها» الجماعية. لذلك نرى هذا المزيج التعددي الذي جمع 18 «حقيقة»، بعضها متنافر في بقعة جغرافية قد لا تتعدّى مساحة مدينة من المدن الكبرى في العالم.

 

فإذا كان للمسيحيين والشيعة والدروز أسبابهم المنطقية والتاريخية للجوئهم الى لبنان، فأنا أرى اليوم أنّ السنّي أيضاً وجد في هذه المساحة القدرة والحق في ممارسة إقتناعاته السياسية والعقائدية من دون إكراه رسمي، كان من الممكن أن يفرض ضوابط ونمطية على مسار حياته. كما أنّه وجد مساحة حرّة للخروج عن التقليد والنمطية وتحدّي الإرهاب الاجتماعي في ممارساته اليومية المتعلقة بالسلوك الشخصي، أي انّ التعددية خلقت له غطاءً لحريته الشخصية يحميه من «وصمة الردة».


 
 

الواقع، وبعد سنوات من التردّد، لقد وصلنا في 14 آذار 2005 الى إقتناع مشترك، وهو أنّ لبنان لم يكن أبداً غلطة تاريخية ولا نتاج مؤامرة «سايكس بيكو»، بل أنّه وطن نتج من ضرورة تاريخية لإيجاد مساحة من الحرّية والتعددية.

 

صحيح أنّ العلاقة بين مكوّنات هذا البلد لم تكن سوية دائماً، ولم نصل عموماً بعد الى الانتقال من منطق قبول الآخر على مضض الى منطق تفهّم الآخر واستكشاف هواجسه، ووضع نفسه في موقع المدافع عن موقف الآخر كسبيل لحلحلة الهواجس.

 

وهذا لا يمكن أن يكون بالإمعان في فتح كوابيس الماضي والاستمرار في تعيير الآخر بما فعله، فلكل منا زلاّته و»من كان منا بلا خطيئة فليرجمها بحجر». فبدلاً من أن نعيّر بعضنا بالتعامل مع إسرائيل، علينا أولاً تفهّم الأسباب والمسوغات. وقبل أن نعيّر بعضنا برفض الكيان اللبناني والتعاون مع المنظمات الفلسطينية، علينا أولاً فهم السياق التاريخي لهذه الواقعة. وقبل أن نمعن اليوم بتعيير بعضنا بخدمة مصالح إيران، علينا أيضاً فهم المسوغات التاريخية لهذا الواقع. وفي الوقت نفسه، على كل مجموعة منا الاتعاظ من تجارب المجموعات الأخرى في تطلعها الى خارج الحدود الوطنية للاستقواء على الآخرين، وكيف أدّت كل تجربة الى كارثة جماعية.

 

قد يكون كلامي في هذه اللحظة أشبه بالهذيان، وربما انّ الأوان قد فات على التمسّك بالأحلام، لكنها أيضاً قد تكون لحظة الخطر الذي ينبّه الوجدان لتغيير المسار نحو هاوية الجحيم. إنّ هذا الطرح ليس من عالم الأحلام، لإقتناعي بوجود نخب وطنية قادرة على ان تكون عابرة للطوائف وللمجموعات، وقادرة على الدفاع عن هواجس المجموعات المسماة أخرى، كما لو كانت تحمل الهواجس نفسها، وهذه النواة ولو كانت صغيرة بحجمها، ولكنها كـ»حبة الحنطة» يمكنها أن تنبت وتغمر الأرض، لو أُعطيت العناية اللازمة والثقة الكافية.

 

في مئوية «لبنان الكبير» علينا اليوم تجديد النذور لفكرة «لبنان الكبير»، فحتى في عزّ التخلّي، هناك أمل.