بينما تتسارع وتيرة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية حتى لامست حدود الانهيار الشامل، يستمر التخبّط الرسمي في مواجهتها، كما يتضح من طريقة إدارة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وغموض الموقف حيال خيار التوجّه نحو الشرق وفي طليعة صفوفه الصين.

يواصل المتحمّسون لخيار تفعيل التعاون الاقتصادي مع بكين سعيهم الى تحضير الأرضية المناسبة لإطلاق مشاريع استثمارية صينية، لكنّ هذا المسعى لا يزال يواجه مجموعة صعوبات تبدأ من وساوس بعض الشخصيات اللبنانية التي تخشى من رَد الفعل الغربي عموماً والأميركي خصوصاً على فتح الأبواب امام العملاق الشرقي، ولا تنتهي عند حدود حسابات خاصة في الداخل لمَن لا يجدون مصلحة لهم في التعاقد مع لاعب اقتصادي صعب المراس وليس من السهل تكييفه مع «قواعد اللعبة» في لبنان.

 

وتبدو الكرة الآن في ملعب الحكومة ورئيسها الذي يعكس على المستوى الشخصي استعداداً كاملاً للبحث في فرَص التفاهم مع الصين حول مشاريع حيوية، الّا انّ هذه الايجابية لم تغادر بعد الإطار النظري، وهي تبقى غير قابلة للصرف ما لم يتم تسييلها الى ترجمة عملية، علماً انّ الاجتماع الذي ترأسه دياب أمس في حضور السفير الصيني وعدد من الوزراء يؤشّر الى انّ النقاش بدأ يتمَدد نحو التفاصيل.


 
 

وهناك من يرجّح انّ دياب، وعلى الرغم من اقتناعه بالجدوى الاقتصادية للعروض الصينية، يتهيّب في قرارة نفسه اعتماد هذا الخيار تخوّفاً من تداعياته المحتملة على المفاوضات مع صندوق النقد ونظرة واشنطن الى حكومته التي لا تتحمّل المزيد من الحصار والعزلة، ولعل اكثر ما قد يُحرجه هو الاستثمار الصيني في قطاع الكهرباء، الفائق الحساسية، والذي يقع في نطاق تجاذبات حادة وحسابات متضاربة.

 

وتلقّى دياب أخيراً رسالة من تَجمّع 10 شركات كبرى صينية (4 حكومية و6 خاصة) وقّعتها شركة «synohedro» المفوضة التفاوض باسم التجمّع، وتضمنت تأكيد الجهوزية للاستثمار في لبنان وتنفيذ المشاريع الآتية: بناء محطتي كهرباء، توليد الطاقة الشمسية، مَد خط قطار من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال ومن بيروت الى دمشق مروراً برياق، شق نفق حمانا، تنظيف نهر الليطاني، وفرز النفايات.

 

َوقد أبلغ تجمّع الشركات الصينية الى بيروت أنه جاهز لنقاشات أولية وتمهيدية مع رئيس الحكومة والوزراء المعنيين عبر خدمة «فيديو فون»، في انتظار أن تسنح الفرصة لعقد اجتماعات مباشرة والغوص في كل التفاصيل.

 

َوتضمّ واحدة من تلك الشركات 112 ألف عامل بينما تحوي أخرى 150 الف عامل، وتبلغ حركة الأموال بالنسبة إلى هاتين الشركتين نسبة 250 مليار دولار لكل منهما.

 

وعُلم انّ مؤسسة ضمان القروض في الصين (هيئة حكومية) بعثت رسالة إلى شركة «synohedro» العملاقة تُبلغها فيها الاستعداد لكي تضمن استثماراتها المفترضة في لبنان، وضمن سقوف مالية مرتفعة.

 

كذلك، أبدَت الشركة المذكورة استعدادها لزيارة لبنان وتسليم المعنيين رسالة تَلحظ قدرتها على تأمين ضمان لاستثمارات بمبلغ 5 مليارات دولار.

 

وكان الرئيس ميشال عون قد تلقّى في شباط 2019 رسالة من تجمّع الشركات الصينية الذي أكد أنه جاهز للخوض في استثمارات ضخمة في لبنان، لكن تلك المحاولة لم تُسفر آنذاك عن أي نتيجة، لأنّ رئيس الحكومة حينها سعد الحريري لم يكن متحمّساً لهذا الطرح، وسط تخوّف من ان تؤدي الموافقة عليه الى غضب أميركي وفرنسي.


 
 

ومع ذلك، لم ييأس الصينيون ولا دُعاة توسيع بيكار الانفتاح عليهم، إذ واصلوا جَس النبض بأشكال مختلفة، وزار ممثلو عدد الشركات لبنان نحو 4 مرّات، حيث بلغ عدد أعضاء الوفد في إحداها 10 أشخاص وفي مرة أخرى 22 شخصاً، كما عمد أحد الوفود الى أخذ عيّنات من مياه نهر الليطاني للإحاطة الكاملة بوضعه، تحسّباً لاحتمال تَولّي مشروع تنظيفه لاحقاً.

 

لكنّ المفارقة انّ الدولة اللبنانية كانت تتعاطى مع المبادرات الصينية المتلاحقة ببرودة لافتة، ويُروى انه عندما طلبت شركة صينية قبل اسابيع السماح لممثليها بزيارة لبنان لمدة 48 ساعة واستثناءهم من الحجر الصحي المفروض بداعي كورونا حتى يتسنّى لهم لقاء بعض المسؤولين وتسليم الرسالة المتعلقة بضمان القروض الصينية، جُوبِه هذا الطلب بالرفض الرسمي، وبالتالي تمّ إلغاء الزيارة.

 

وإزاء هذا المد والجزر، ينبّه أحد المطّلعين الى انّ صدقية لبنان باتت على المحك، وانه صار لزاماً عليه أن يتخذ موقفاً حاسماً ويتصرف بجدية تامة وصولاً الى الكَف عن التعاطي بميوعة مع العروض الآتية من بكين، وكأنّ الصين هي التي تحتاج إلى مساعدتنا وليس العكس.

 

ومن الواضح أنّ عقبات أساسية لا تزال تحول دون اتخاذ قرار باستقطاب الاستثمارات الصينية، ومن بين تلك العقبات انّ المتحمّسين ضمن دوائر القرار للتفاوض مع صندوق النقد يحذّرون من تَبعات التوجه شرقاً، ويهوّلون بأنه لا يمكن الجمع بين سلوك هذا المنحى الذي ينقل لبنان الى مكان آخر وبين طلب الحصول على دعم مالي من الصندوق، إضافة إلى أنّ هذه المغامرة ستشكّل في رأيهم استفزازاً كبيراً للأميركيين في توقيت دقيق لا يتحمّل أي مغامرة من هذا النوع.

 

وعليه، هناك من يطرح التساؤلات الآتية:

ماذا ستفعل الحكومة التي تحاصرها الأزمات من كل حدب وصوب، وهل ستخوض مغامرة عقد «الخطوبة الاقتصادية» على الصين بعدما انكفأ «العشّاق» السابقون للبنان ام انها لن تجازف بإغضاب واشنطن وحلفائها؟ واذا فضّلت أن تراعي مزاج الولايات المتحدة والغرب فما الضمانة بأنهما سيخففان الضغط عليها وسيحيدانها عن نزاعهما مع «حزب الله»؟ وهل يجوز أن تستمر الولايات المتحدة في رفض مساعدة لبنان اقتصادياً وتجفيف ينابيعه المالية، ولا تسمح له في الوقت نفسه بطَرق أبواب أخرى على قاعدة «أطلب الدعم ولو من الصين؟».

 

وفيما يستمر الأخذ والرد حول «استِجرار» الطاقة الاقتصادية من الصين، يستمر التَبعثر والتعثّر على المستوى الداخلي في مقاربة كتلة الازمات المترابطة.

 

وتبرز في هذا الإطار الحساسية المتبادلة بين بعض الاوساط الحكومية من جهة والبنك المركزي وجمعية المصارف من جهة أخرى، وما تُرتّبه من انعكاسات سلبية على المعالجات المفترضة.

 

َوضمن هذا السياق، عُلم انّ وزير الداخلية العميد محمد فهمي استشاطَ غضباً بعدما بلغه انّ رئيس جمعية المصارف سليم صفير صَرّح بأنّ مجلس الوزراء دعاه الى كأس ويسكي، حيث اعتبر فهمي انّ كلام صفير الذي شارك في جلسة مجلس الوزراء أمس «ينطوي على إساءة للحكومة وللشعب اللبناني الذي بدأ يجوع».

 

وتفيد المعلومات انّ فهمي بعثَ رسالة واتساب الى زميلته وزيرة العدل ماري كلود نجم، داعياً إيّاها الى «استئذان رئيس الحكومة لإجراء اللازم القضائي مع سليم صفير».