«شرم برم والناس غافلة

 

والغفلة عَ الأفهام آفلة

 

والكذب لعلع في الحفلة

 

وأغلب السامر مساطيل»

 

(أحمد فؤاد نجم)

كان جوزف غوبلز وزير الدعاية النازية أيام جنونها الكارثي في ألمانيا يقول: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسستُ مسدسي».

 

في بلدنا كثير من أشباه غوبلز من كارهي الثقافة على رغم من أنّ بعضهم ينعتون أنفسهم بأنهم مثقفون، ظلماً وعدواناً. فارق كبير بين الإنسان المثقف وشبيه المثقف العقائدي، وإن كان العامّة يخلطون بين الاثنين، عندما يسمعون الخطابات المرتجلة الطويلة لخطباء الأحزاب العقائدية، حين ترتفع أو تنخفض أصواتهم للتناغم مع الكلام الذي ينساب كالنبع من أفواههم، فلا يتلعثمون، ونادراً ما يخطئون في الصرف والنحو، وإن أخطأوا فلن يكتشفهم معظم السامعين الذين لا يعرفون هم أصلاً هذه القواعد! وقد يظن معظم الناس أنّ الخطيب العقائدي يتمتع بهالة وعبقرية تجعله قادراً على الاستحواذ على قلوب الناس وعقولهم وأحياناً أرواحهم.

 

ما لا يعرفه معظم الناس أيضاً هو أنّ فصاحة معظم هؤلاء الخطباء لم تأت من موهبة ما، بل هم قد تلقّنوا هذا الفن على يد اختصاصيين، وإن كان بعضهم أتقَن الحرفة أكثر من غيره. على فكرة، من المعروف أنّ أدولف هتلر كان قد تلقّن فن إبهار الناس على يد اختصاصيين في المسرح. المهم هو أنّ هدف العقائدي هو إقناع الآخرين بصوابية عقيدته مئة في المئة، من دون نقصان ليصل إلى حد اليقينية الكاملة أو حتى القداسة المطلقة والعصمة.

 

أمّا المثقف فهو من طينة أخرى، فهو عملياً الساعي إلى المعرفة بكل جوانبها والباحث الدائم عن الحقائق والمُدرك أنّ ما يعرفه هو لا يشكّل يقيناً بأيّ حال من الحالات، وهو الذي يكتشف مع كل معرفة يكتسبها، أنّ ما يجهله هو أكثر بكثير مما يعرفه.

 

معظم هؤلاء المثقفين الحقيقيين ليسوا بالخطباء المفوّهين، وقد تخونهم قدراتهم الشخصية في التعبير عن ذاتهم، وبعضهم قد يكون مملاً في تفصيله الأمور، او مستفزاً في صراحته ومنفراً للسامعين لبرودته، ولكنهم بالتأكيد منفتحون على الحقائق وعلى الحوار وعلى الاستفادة من المعرفة حتى من الآخرين العقائديين، وقادرون على تطوير قناعاتهم بناءً على ما يستكشفونه من معلومات جديدة.

 

على هذا الأساس لا يمكن الجمع بين المثقف والعقائدي، لأنّ الواحد منهما يلغي الآخر، أي بمعنى آخر لا يمكن العقائدي ان يكون مثقفاً بل هو عقائدي فقط.

 

هذه ببساطة الفروقات بين خطباء واختصاصيي الممانعة، من عقائديين ملتزمين، إلى سَفسطائيين بالأجرة تحت لواء مراكز الدراسات الإعلامية، أصحاب المصطلحات الخشبية والمقامات الخطابية والحركات المسرحية، والآخرين، غير الممانعين، الذين ما زال بعضهم يؤمن بقوة الحجة وسلطان الحوار وقدرات الحقائق على مواجهة أكوام البهتان التي يراكمها العقائديون في الخطب وفي الإعلام.

 

يقول غوبلز أيضاً: «أكذب، أكذب حتى يصدقك الناس». والبهتان هو نوع محدّد من الكذب، وهو اتهام الآخرين بصفات أو أعمال يقوم بها الكاذب نفسه، فيُبهِت بها المتهمين، أي يصدمهم بقدراته على الإفتراء عليهم.

 

ولو راجعنا لائحة بهتان منظومة الممانعة، من لبنان إلى سوريا إلى العراق وطهران، وحتى إلى اليمن غير السعيد منذ أن حَلّت كارثة الممانعة عليه، لكان من السهل اكتشاف ما يلي:

ـ إتهام الآخرين بخدمة الأجنبي، وهم بالفعل في خدمة الإيراني.

ـ إتهام الآخرين بالتآمر، وهم أكثر مَن تآمَرَ.

ـ إتهام الآخرين بالعمالة لأميركا والغرب وأحياناً إسرائيل، وهم مَن تآمَر مع الغرب في محطات عدة تقاطعت فيها المصالح، ودولتهم الراعية تعاونت مع إسرائيل في «إيران غيت» ولاحقاً في «عوفرغيت»، ومن ثم تمكنت من كسب رضى الشيطان الأكبر وأنجزت الاتفاق النووي مع الرئيس أوباما.

ـ هم يتهمون الآخرين بالتطرف والتكفير، في وقت هم يكفرون ويقتلون كل معارضيهم حتى ضمن طائفتهم، ويتهمونهم بالعمالة وبخدعة السفارة، وقد طاوَل التطاول حتى خيرة المرجعيات الدينية مؤخراً مثلما حصل مع العلامة علي الأمين.

ـ هم يتهمون الآخرين بالعمليات الإنتحارية، في حين أنهم يسمّونها استشهادية عندما تخدم أهدافهم.

ـ هم يتهمون الآخرين بالإرهاب، ويجعلون من إرهابهم واجباً مقدساً.

ـ هم يتهمون الآخرين في الحاجة إلى السلطة، في حين أنهم استولوا اليوم على كل السلطة من دون غيرهم.

 

سلسلة طويلة من الكذب المقدس مارسها وسيمارسها الممانعون حتى يوم نهاية خدمتهم، فلم ينفع كذب جوزف غوبلز ودعاياته، ولا خطابات أدولف هتلر وحركاته المسرحية في منع وصولها إلى مصيرها المحتوم.

 

لكن، ومع ذلك، فما زال بعض جمهور الممانعة حتى اليوم يستخدم أسلوب البهتان ذاته في اتهام كل من يطرح سؤالاً أو تساؤلاً منطقياً عن كيفية إخراج البلد من المأزق، أو على الأقل وقف الانهيار السريع من خلال الحلول الممكنة. فيتهم المتسائلون مباشرة بالعمالة للأميركي في أقل تعديل، ويذهب البعض إلى العمالة لإسرائيل. ثقب الذاكرة هو الذي يجعل البعض المتمرّس بالبهتان بأنّ ضيق العيش هو ما دفعَ بالناس في الجنوب مثلاً الى رَش الأرز، النادر وجوده اليوم، على دبابات العدو عام 1982. وذاك المهرج الذي يتحدى الجوع بالعزة والكرامة، ما عليه إلّا أن يرى ذل المواطن اليومي أمام لقمة الخبز ومحلات الصيرفة ومحطات الوقود، والآن في التهافت على شراء الشمع استعداداً للعتمة. أو لا بأس، فهل يتذكر هذا أيضاً الشراشف البيضاء التي رفعت على الشرفات والأسطح والسيارات الهاشلة من جحيم القصف الغاشم المدمّر عام 2006، وكيف تحوّل المواطن العزيز في أرضه وبيته إلى لاجئ في مدرسة رسمية، بين أناس لم يعد اليوم عندهم ما يعطونه، لا مالاً ولا تعاطفاً.

 

لا يغيّر الله في قوم إذا لم يغيّروا ما في أنفسهم، والواجب اليوم هو أن يقول الجمهور الذي كان مأخوذاً بشعارات أشرف الناس، انهم غير مستعدين لتجربة صبرهم من جديد، وأن يعلنوا أنّ على الممانعة أن تتفهّم أوضاعهم وتعفيهم من تَبِعاتها.