هدأت السجالات الصاخبة التي حاول التيار الوطني الحر من خلالها إيهامنا أنه أقام الحدّ بين استمرار التهريب على الحدود الشرقية وإنقاذ الاقتصاد، وبين خيار المقاومة والحفاظ على الاستقرار في ظلّ الضغوط الدولية. المواقف التي أطلقها بكل وضوح أكثر من نائب وقياديي في التيار، ورافقتها حملة استحضرت الفيدرالية من حقبة اعتقدنا أنّها ولّت، قابلها حزب الله بخطاب ذهب الى قلب الطاولة وتجاوز المألوف. المنابر الشيعية التي تصدّت للمشروع الفيدرالي أسقطت اتّفاق الطائف ومعه كلّ السرديات السياسية، من الميثاقية الى التعدّدية مروراً بالعيش المشترك، التي طالما استخدمها أصحاب النظرية اللبنانية الكيانية من المسيحيين غطاءً لاستئثارهم بالسلطة. الاعتداءات في جرود لاسا التي تزامنت مع السجالات وأسقطت كل خصوصيات الجمهورية لم تكن سوى عيّنة من مشهد ميداني مرشّح للتعميم لقلب الطاولة، وإعلان لوحدة الموقف الشيعي عند الأزمات، وبشكل أوضح الانتقال عند الحاجة الى الأحاديّة الشيعية التي يقود خياراتها حزب الله.

الهدوء الذي خيّم فجأة بعد التوتر البالغ شكّلته مواقف وإجراءات عديدة - التفت على خطاب الشيخ أحمد قبلان - من الأمين العام لحزب الله إلى شخصيات تدور في فلك الرئيس نبيه بري وأجمعت أنّ تطوير النظام لا يعني الانقلاب على الدستور. بالتزامن مع ذلك تمّ استيعاب الخطاب الفيدرالي بالمسارعة في عقد المصالحة بين لاسا وقهمز، ووضع ما جرى في إطار الخلاف الشخصي والنزول عند رغبة التيار الوطني الحر، بإعادة تبنّي معمل سلعاتا كجزء من خطة الكهرباء، من دون تصويت وعلى حساب حكومة ولدت لخدمة الحليفين فلا كرامة لقراراتها.

إنّ الدروس المستفادة من التجربة إياها في التصعيد والتهدئة تظهر أن التماهي بين حزب الله والتيار الوطني الحر لا يقوم على المصالح المشتركة لا في السياسة ولا في الاقتصاد أو الأمن، بل على معادلة الخوف المتبادل من نتائج انفراط عقد التحالف بينهما، وأنّ توازن الخوف هو ما يبقي هذه المعادلة على قيد الحياة بخلاف كل نظريات التحالف المعروفة.

لقد عبّرت وتيرة التصعيد في التصريحات عن وهم الالتقاء بين رؤيتين مختلفتين للبنان، تقوم إحداها على كيانية ضيّقة خائفة تسعى الى وضع ما أمكن من حواجز لحماية نفسها من الاندثار، فيما تُسقط الأخرى الحدود وتستبيح الخصوصيات لخدمة مشروع هائم في محيط معادٍّ، وإنّ التناقض في الرؤيتين لا يحجبه كل التكاذب الذي صيغت به ورقة التفاهم. كما عبّرت المجاهرة بالفيدرالية عن رغبة في الهروب نحو الانعزال وعن الخوف من القبول بمشروع الدولة المدنية. وتخفي إثارة مسألة المعابر غير الشرعية من قِبل التيار وتلقفها الواسع من قِبل جمهوره رغبةً بالخروج من سطوّة حزب الله التي ألغت الجمهورية. بدوره عبّر الانصياع للتهدئة عن خوف التيار من خسارة سطوّة السلاح مما يفقد الأكثرية النيابية المُدعاة معناها ووزنها، ويعيد إحياء هواجس الديموغرافيا والعمق الإقليمي اللذين لم يستطع التيار تجاوزهما للانخراط في اتّفاق الطائف.

يخاف حزب الله بدوره من خسارة الغطاء المسيحي، الذي سيضاف لرفض سائر المجموعات السياسية والطائفية له ولسلاحه، ويجعله مكشوفاً في الداخل ويقضي على كلّ المسوغات التي يسوقها لبناء حالته المذهبية واقتصاده الخاص على حساب الاقتصاد الوطني. يعتقد حزب الله أنّ توسيع دائرة التورط في مشروعه ليضمّ إليه مجموعات سياسية وطائفية أخرى قد يخفف من وطأة الإصرار الغربي على إنهاء دور إيران العسكري وإعادتها الى داخل حدودها، بالتزامن مع ركاكة حليفها بشار الأسد وربما استعداده للمساومة. كما يعتقد حزب الله أنّ التهدئة عن طريق مقايضات سياسية ومالية، حتى ولو كان على حساب مسلّماته السياسية، ستطيل عمر اقتصاده المتعثر بسبب العقوبات الأميركية والغربية. سلعاتا مقابل المعابر غير الشرعية لا يمكن قراءتها سوى في سياق التنازلات العالية الكلفة لتجاوز الخوف ومنها تبرئة العميل عامر الفاخوري ووقف الملاحقات بحقه أحد أشكالها الفاقعة.

تزداد الحاجة لتحالف الخائفَين مع التطور المتسارع للظروف الدولية والمحلية. تطبيق قانون قيصر المترافق مع تعميم الموقف الألماني  من حزب الله على دول الاتّحاد الأوروبي والذي أضيفت إليه النمسا بالأمس، والإصرار الأميركي على خروج إيران من سوريا سيدفعان نحو المزيد من تمسك حزب الله بحليفه، وبالمقابل فإنّ تطور مجريات الثورة في الشارع اللبناني والتي أصبحت تستهدف مباشرة العهد ورئيسه تدفع لتعويم العلاقة مع حزب الله الذي أظهر قدرته على الاعتداء على المتظاهرين ووضع معادلة الاستقرار مقابل الانسحاب من الشارع.

ما يجمع بين ابتلاع الخطاب الفيدرالي وإطلاق الفاخوري والقبول بسلعاتا وبتصريحات جبران باسيل حول عدم وجود خلاف أيديولوجي مع إسرائيل والسكوت عن المعابر غير الشرعيّة وفساد الكهرباء وربما غداً القبول بعودة العملاء المتورطين من إسرائيل تحت ستار قانون العفو ومن دون محاكمة هو معادلة الخوف التي تجمع الفريقين اللذين يحكمان لبنان.

فأي استمرار لجمهورية يحكمها فريقان خائفان!!!!!      

 

 

العميد الركن خالد حماده     

اللواء