قدّمت حكومة حسان دياب مع مرور 100 يوم على نيل الثقة جردة حساب لما قامت به. الإنجاز الأكبر بالنسبة إليها هو الخطة التي وصفها رئيس الحكومة بأنها تُشكّل الأرضية الصلبة التي يمكن البناء عليها لإعادة تكوين البنية المالية والاقتصادية للبنان، وستُستكمل خلال أيام، بخطة اقتصادية متكاملة لمختلف القطاعات. وعلى أساسها بدأ لبنان التفاوض المالي مع صندوق النقد الدولي، وعقد اجتماعات تنسيقية مع سفراء الدول المعنية بمؤتمر «سيدر» لتنفيذ التزاماته لبدء الترجمة العملية له. وسينكب مجلس النواب على دراسة الخطة وعلى إصدار تشريعات لإصلاحات ضرورية من أجل إظهار قدرٍ من الجدية حيال المجتمع الدولي.

لكن ذلك لن يؤدي إلى تحريك عجلة انتشال لبنان من القعر الذي وصل إليه مالياً واقتصادياً، ذلك أن المقاربات لأصل المشكلة لا تزال تتعامى عن مكمنها الفعلي والدرب الذي لا بد من أن تسلكه. فالتعامل مع المأزق اللبناني على أنه مأزق اقتصادي- مالي بحت، وأن الحل تالياً هو حل اقتصادي- مالي يؤشر إلى أن الأزمة ستطول، وأن انتظار بوادر فرج سيكون كمن ينتظر السراب.

قد يكون توصيف النائب العوني زياد أسود هو التوصيف الأدق سياسياً لعمق المشكلة، إذ قال عبر شاشة تياره إنه «لا يُمكِن حمل البارودة والشعب جوعان، اللي بدو يحمل بارودة بدو يكون شعبو مرتاح»، وأردف أن «هذا هو رأي الأميركيين». وبغض النظر عن مرامي تفوهه بهذا الكلام، لكنه يُظهّر - على الأقل لجمهور العونيين - هذا الترابط بين الجوع والفقر وبين سلاح «حزب الله» الذي جعل لبنان بأجمعه وبتنوع مشاربه رهينة. تُحسب لنائب ينتمي إلى العهد أن يخرج ليعلن ذلك من دون تعمية.

آن الأوان للبنانيين أن يدركوا أن المشكلة ناجمة عن التحاق لبنان بالمشروع الإيراني
فما عادت المواجهة الدائرة على الساحة اللبنانية مموّهة، بل أضحت جليّة في أبعادها المرتبطة بإطباق «حزب الله» على قرار لبنان وتوظيفه في خدمة المشروع الإيراني في المنطقة، لكن المستغرب هذا الصمت المطبق للقوى السياسية التي لا تدور في فلك «حزب الله» والمحور السوري- الإيراني، وكأن المواجهة تدور على أرض ليست أرضهم ودولة ليست دولتهم، وشعب لم يمنحهم على الدوام ثقته ولم يجعلهم ممثلين له وناطقين باسمه والحامين المفترضين لمصالحه.

كان كل من قوى «14 آذار» يقدّم تبريراته السياسية لقرارات مهادنة «حزب الله» والتعايش معه والتآلف معه في حكومة واحدة، يربطها حيناً بالظروف الإقليمية والدولية، وحيناً آخر بضرورات منع الفتنة وحماية الجماعة، ويرمي أحياناً عجزه على الاختلال في موازين القوى الداخلية. وكان يمكن فهم قرار تلك القوى سواء تيار المستقبل أو الحزب الاشتراكي أو القوات اللبنانية بعدم المصادمة السياسية مع «حزب الله» وتحميله مسؤولية التضييق الاقتصادي والحصار غير المعلن الذي عاشه لبنان منذ العقوبات الأميركية على «الحزب»، كي لا يُتهموا بأنهم يتماهون مع قرار واشنطن واستهدافها له. كما كان يمكن فهم التغاضي بعد التسوية الرئاسية التي حصلت بفعل تبنّي رئيس حزب «القوات»سمير جعجع ورئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري لمرشح «حزب الله» ميشال عون. يمكن تعداد ألف سبب وسبب لكل من هذه القوى السياسية الوازنة في المرحلة السابقة، ولكن ماذا عن الآن؟

فالتسوية الرئاسية أظهرت عقمها وفشلها وبانت معها خياراتها الخاطئة، والرهانات التي انطلق منها كثيرون بأن عرب الاعتدال والغرب لن يتركوا لبنان يقع وشعبه يجوع ظهر أنها رهانات خاطئة أيضاً. لبنان أصبح في الهوّة السحيقة، ونصف اللبنانيين تحت خط الفقر، والنصف الآخر يصارع للبقاء، الكثيرون فقدوا وظائفهم وأعمالهم، ومن لا يزال يعمل مُهدّد، ومَن ادّخر مالاً تبخّرت قيمته، ومَن أودعه في البنوك لا يمكنه الحصول عليه، والحبل على الجرار من الآتي الأعظم، مع الحديث عن الدخول في مرحلة فقدان المواد الرئيسية من مواد غذائية ومشتقات نفطية مع شح الدولار للاستيراد.

السؤال الذي بات يُطرح بقوة: إذا كانت القوى المنضوية في محور إيران تعتبر نفسها منتصرة بما حققته من إلصاق قرار لبنان الاستراتيجي بطهران، وراغبة في تحمُّل أثمان السلاح ودوره الإقليمي وأثمان نظرية الاقتصاد المقاوم بالاتجاه نحو الشرق التي يطالب بها أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، و»السوق المشرقية» التي لاقاه بها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، فما الذي تفعله القوى السياسية التي لا تدور في فلك «حزب الله» وإيران؟ أين دورها السياسي في منع لبنان من السقوط النهائي؟ أي موقف تتخذ لدرء المجاعة التي يتخوَّف منها رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط؟ إلى أي مدى تستقيم استقالة «الفريق السيادي» من الفعل بذريعة أن المواجهة الراهنة هي بين أميركا وإيران وذراعها اللبناني المتمثل بـ»حزب الله»، وبالتالي «بطيخ يكسر بعضو» أو لننتظر كي تنتهي المبارزة؟ أين المسؤولية الوطنية لتلك القوى السياسية؟

أصبحت المعادلة في لبنان واضحة: إنقاذ لبنان اقتصادياً ومالياً يتطلب مساعدة صندوق النقد الدولي والدول المانحة في «سيدر». وهذا لن يتحقق فقط بإصلاحات هيكلية مالية وإدارية واقتصادية، بل يتطلب قبل ذلك إصلاحات سياسية تتضمن التقيّد بالقرارات الدولية من 1701 و1680 و1559 بما فيها السلاح والمعابر والعودة إلى سياسة «النأي بالنفس» التي من شأنها إخراج لبنان من سياسة المحاور واستخدامه ساحة في الصراع الإقليمي– الدولي، واتخاذه رهينة من قِبل فريق من اللبنانيين لحساب أجندات غير لبنانية. فوصفة الإنقاذ سياسية،وتتطلب خروج القوى السياسية الوازنة من كبوتها ومن حال الانتظار لحسابات لن تعود ذات وزن مستقبلاً حين يتلاشى دورها!.