التيار اليميني الفلسطيني هو الذي سمح لإسرائيل أن تهنأ بكل ما لديها من تطرف، وهو الذي سمح ليمينها أن يُثبت لنفسه أنه قادر ليس على ممارسة الاحتلال، بل وعلى التوسع فيه.
 

انتخبت إسرائيل، مرة أخرى، كتلة كبرى من أحزاب اليمين. وستظل تفعل ذلك حتى يغيّر الفلسطينيون ما بأنفسهم؛ سلطتهم على وجه التحديد. أصل العلة إنما يبدأ من هنا.

 

لا يوجد يسار في إسرائيل. هناك يسار وهمي طبعا. ولكن هناك يمين، ويمين أكثر منه. وكلما ترسّخ الاحتلال أكثر، كلما زادت وطأة اليمين ليُصبح أكثر يمينية مما كان. قل متطرفا. ثم أكثر تطرفا.

 

نحن على هذا الحال، بالضبط، منذ أن دخل الفلسطينيون “عملية السلام”. المؤشرات كلها تقول إن اليمين يزدهر، ليس لأنه تمكّن من أن يفرض أجندته على الإسرائيليين الذين ظهرت بينهم تيارات متفرقة تبحث عن السلام وتدافع عنه، بل لأنه تمكن من أن يفرض أجندته على الفلسطينيين أنفسهم. التيار اليميني الفلسطيني هو الذي سمح لإسرائيل أن تهنأ بكل ما لديها من تطرف، وهو الذي سمح ليمينها أن يُثبت لنفسه أنه قادر ليس على ممارسة الاحتلال، بل وعلى التوسع فيه.

هذه الثمرة المُرّة، لم تكن نتاج ظرف دولي، ولا إقليمي، ولا عربي. هذه أكذوبة صغيرة قيلت، وظلت تُقال لإرضاء النفس، ولقبول المجرى اليميني المتطرف الذي سلكته السلطة الفلسطينية.

 

على امتداد عشر سنوات، توزّعت على انتفاضتين، ذاق الإسرائيليون، والفلسطينيون طبعا، مُرّ الشقاء. الفلسطينيون خسروا، بفارق السلاح فحسب، 1300 قتيل، بينما خسر الإسرائيليون 160 قتيلا في الانتفاضة الأولى التي تواصلت بين عامي 1987 و1991. أما في الانتفاضة الثانية التي تواصلت بين عامي 2000 و2005 فقد خسر الفلسطينيون 4412 قتيلا بينما خسر الإسرائيليون 1069 قتيلا.

 

الشيء المهم في هاتين الانتفاضتين هو أنهما فتحتا الطريق للبحث عن سلام. الأولى دفعت باتجاه اتفاق أوسلو عام 1993، والثانية انطفأت باتفاق الهدنة الذي عقد عام 2005 في قمة شرم الشيخ والذي جمع الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثاً محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون. في ذلك العام بالذات تخلّت إسرائيل عن احتلال كل غزة، وانسحبت من 25 مستوطنة.

 

هل تعرف الآن، ماذا يحتاج الفلسطينيون لكي تنسحب إسرائيل من كل الضفة الغربية؟ بل هل تعرف ماذا تحتاج إسرائيل لكي تطبق أيّا من مقررات الشرعية الدولية؟

 

الجواب يعرفه الجميع، إلا القيادة الفلسطينية. ذلك أن مشروعها اليميني هو الذي يقنعها بجعل الاحتلال مريحا والسلام قائما. لعل لحظة عطف تأتي من يمين، أو من يمين اليمين، أو من أيّ كان، فيحل السلام عندما يقتنع الصهيوني بأن يقدم لضحاياه تبرعا.

فات الجميع أن يسأل: إذا كان الاحتلال مريحا والسلام قائما، فلماذا تعطي إسرائيل شيئا لمن لا يقدر أن يأخذ بيديه ما يستحق؟ لماذا المفاوضات أصلا؟ أفلم تلاحظ أن الإسرائيليين تخلّوا عن فكرة التفاوض من الأساس؟ أفلم تلاحظ أنهم باتوا يتفاوضون مع أنفسهم فقط؟

يستطيع المرء أن يركض ما شاء له الهوى، ولكن الركض في الطريق الخطأ كان هو الذي أوصلنا جميعا إلى “صفقة القرن”. ولا أعرف لماذا يندد بها أولئك الذين مهدوا لها الأرض بقناعاتهم السلمية، واستخذائهم لإملاءات إسرائيل، وعجزهم عن التمرد، وقبولهم قيود الاحتلال وشروطه ومقاييسه، بل وبقبولهم اللعب في ملعبه، ووفقا لقواعده ومفاهيمه.

 

لماذا كان يجب على إسرائيل أن تعطي سلاما غير السلام الذي فازت به؟ ولماذا تنسحب من أيّ شبر من الأرض تحتله، إذا بدا احتلالها مريحا ومستقرا؟

هل فَعَلَها أيّ احتلال سابق في التاريخ؟ هل تخلّى المستعمرون، أيّا كانوا، عن مستعمراتهم لو كان حالها كحال السلام القائم الآن في فلسطين؟

 

في العمق، ثمة غليان فلسطيني حقيقي. إلا أن بخاره لم يملأ بعد رأس السلطة. ولم يهز شعرة في قناعاتها الراسخة، بأن السلام شيء يشبه النوم على مخدة أحلام وثيرة.

لا يوجد يسار إسرائيلي، إلا الوهم. ولكن هل يوجد يسار فلسطيني قادر على التمرد؟ في الواقع، ولا حتى بالوهم. اليسار الفلسطيني أخذته سُكرة السلطة، بخمرة صنع السلام بالسلام، بدليل أن لا أحد قرر أن ينفصل أو أن يستقيل أو أن ينأى بنفسه عن مؤسسة الشلل في منظمة التحرير، أو يهدد بإنشاء منظمة تحرير بديلة.

 

اليسار الذي ظل يطارد “خيوط الدخان” الأيديولوجية ضاع بين ماركسية لم تفهم الواقع، وواقع ما كان بوسعه أن يفهم بمَ يهذرون. والكل تنكّبَ السلاح، حتى لم يبق من المقاومة إلا اسمها وخيوط الدخان.

ما السبب؟ الحقيقة هي أن اليسار واليمين الفلسطينيين ظلا ينتظران الفرج، ليس الذي تصنعه المقاومة الفلسطينية بنفسها، وإنما “المقاومة” التي تصنعها “قضية العرب الأولى”، بمعنى أن تكون “المقاومة” أو دعمها مسؤولية عربية بالدرجة الأولى. وكذلك تحرير فلسطين. ولكن، أفهل قصّر العرب في دعم قضيتهم الأولى؟

 

كنْ منصفا وسترى أن العرب قدموا لفلسطين أكثر بكثير مما قدموا لتحرير الجزائر من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.

خاضوا ثلاثة حروب كبرى، على الأقل. خسروها نعم، ولكنهم خاضوها بالفعل. ضحوا بالكثير وخسروا الكثير. حتى انتهينا إلى رئيس وقف أمام حبل المشنقة ليقول “عاشت فلسطين حرة عربية”. عُوقبَ بالموت لأنه ضرب إسرائيل. وأعدمَ بيد إيران لأنه هزمها.

 

على امتداد أكثر من نصف قرن، وحتى احتلال العراق، كانت القضية العربية الجامعة هي فلسطين. لم نكسبها كما لم يكسب العرب أوطانهم أصلا.

المعادلة ظلت مقلوبة حتى انتبه الكثيرون إلى أن البناء الوطني، هو القضية التي يتعين كسبها أولا. لا تستطيع أن تُغني أحدا وأنت فقير. لا تستطيع أن تدافع عن مظلوم وأنت ضعيف. يجب أن تنهض ليكون بوسعك أن تؤثّر، وتصنع فارقا. كما لا يُعقل أن تحرر أحدا، وأنت لست حرا.

لا يصح أن تضحّي بالعراق لكي تحرّر فلسطين. معادلة كهذه فيها شيء غلط. كما لا تستطيع أن تحارب سرطانا مثل إسرائيل وأمامك عدوّ كإيران، أشرس من كورونا. الأول يأتيك على جبهة، بينما الثاني يفتت ويمزق من الداخل.

الإحصاءات قد تفيد في المقارنة بين هذين العدوّين. فانظر إلى المذبحة الطائفية، وسترى الملايين من الضحايا دفعة واحدة.

ولقد مضى وقت طويل جدا، قبل أن ندرك أن ثمة مسؤوليات وطنية للإصلاح يجب أن تؤدى. والحال، فلن يمكن لأيّ أحد أن يتخلى عن شبر من فلسطين لا يتخلى عنه الفلسطينيون أنفسهم. أليس في ذلك ما يكفي من الوضوح؟

كما لا سلام إلا ما يصنعه الفلسطينيون. ولا رضا إلا ما يرضوه. هذا هو المنهج العربي الجامع. وهو منهج معلن، ولن يمكن لأحد أن يتخلى عنه. فلسطين تظل مسؤولية كبرى أمام التاريخ. ولكن ماذا تفعل، عندما تغلب على الفلسطينيين خمرة السلطة وسكرتها؟ ماذا تفعل عندما تنكسر فيهم روح المقاومة؟

المستعمرون لا ينسحبون بالسلام. هذه حقيقة بسيطة. وبالتأكيد، ليس عندما تجعل احتلالهم مريحا. يجب أن يرى الغزاة أنهم يدفعون الثمن. وكلما كان باهظا أكثر، كلما أصبح السلام الحقيقي أقرب.

نعم، يدفع الفلسطينيون أضعاف ما يدفعه الإسرائيليون لو أنهم خاضوا حربا. ولكن ما العجيب في هذه المعادلة؟ الجزائريون قدموا مليونا ونصف مليون شهيد على مذبح الحرية. أليس ذلك من عزائم الأمور؟ أليس من طبيعتها على مر التاريخ، وعلى مر حركات التحرر بين الشعوب؟ وهل يخشى الفلسطينيون التضحيات؟ وهل يخشون الخسارة؟ إنهم مجانين بحب أرضهم. مجانين بفكرة التحدي والمقاومة وتقديم التضحيات؛ شيبهم وشبانهم. يولدون مقاومين، ويموتون مقاومين. إلا أهل الخذلان والمُسكرين.

أفهل لاحظت المعنى من وراء أن تحمل فتاة في مقتبل العمر سكينا لتطعن جنديا؟ أفهل رأيت البصقة التي تبصقها طفلة أو فتى فلسطيني في وجه جندي مدجج بالسلاح؟ أفهل رأيت تدافع الشيوخ من أجل الصلاة في الأقصى؟ أفهل باعوا شبرا مما يملكون من القدس، رغم إغراءات الملايين، وهم على فقر وعوز؟

هذا شعب مجانين. ولكن سلطته هي وحدها “العاقلة”. والعلة إنما تبدأ من هنا. قطار السلام الذي خرج عن السكة، بحاجة إلى شيء بسيط: أن يترجّل عنه الراكبون.