تحصي «حكومة مواجهة التحديات» أيام هذا الأسبوع ساعة بساعة. فهو من دون شك أسبوع الحسم في كثير من الخيارات النقدية والسياسية الكبرى التي وضعت الحكومة في أصعب المواجهات المتوقعة. فعلى فشلها في تجاوز المطبّات العالية أو نجاحها يتوقف مصيرها حاضراً ومستقبلاً والعكس صحيح، فإمّا أن تعوم أو تغرق اكثر. وعليه ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
 

ليس صعباً ولا مستغرباً القول انه عندما تغيب الشفافية وتفتقد المعلومات وتحجب الأرقام الدقيقة وتغيب المواقف المسؤولة تتكاثر السيناريوهات الوهمية والملغومة ومعها التسريبات الخبيثة، ويتقدم المدّعون بالمعرفة والعلم والاختصاص وتتراجع لغة العقل والمنطق الى الحدود الدنيا.

 

لا تحمل الإشارة الى هذه المعادلة المتكاملة والمتشابكة أي جديد، فهي من المعادلات المتداولة في الأروقة السياسية والديبلوماسية التي تعرف أكثر مما يبوح به المسؤولون او يعترفون به. ويردها البعض الى طبيعة حياة اللبنانيين اليومية منذ فترة، وقد لا تعيشها ولا تفهمها مجتمعات أخرى حيث للأرقام والإحصائيات اهميتها الكبيرة فلا تتحوّل كما في لبنان وجهات نظر يدور حولها جدل عقيم.

 

على وقع هذه الأجواء يعيش اللبنانيون أيامهم، يتابعون ما يمكن ان تؤدي اليه مهمة بعثة صندوق النقد الدولي وورش العمل التي تعقد في إطار المساعي المبذولة لتجاوز الأزمة النقدية التي ألقت بظلالها الخطيرة على مختلف وجوه الحياة. يفيق اللبنانيون على تسريبة تقود الى البلبلة، وقبل النفي أو التأكيد ينامون على أمل أن يستيقظوا في اليوم التالي ويكون قد ثبت إذا كانت حقيقة أو مجرد كذبة. ولكن لا هذه ولا تلك ثابتة ومؤمنة، فبقي اللبنانيون في دائرة الشك والتقدير.

 

وفي الحالتين، يبدو للمراجع الديبلوماسية والسياسية المراقبة ان لا وجود لِما يُطمئن اللبنانيين الى مستقبلهم ومصير ودائعهم المصرفية ومدّخراتهم أينما وجدت في صناديق المصارف او في مصرف لبنان لا فارق. وهو أمر لا يقاس بحجم الإهانة التي يتعرض لها معظم اللبنانيين امام صناديق المصارف، حيث ينتظر الكهل الى جانب الشابات والشبّان صفوفاً متسوّلين يشحذون مئة او مئتي دولار في الأسبوع والى مدى يمكن أن يفتقدوها.

 

 

على كل حال، وبعيداً من مسلسل الروايات والنظريات المتناقضة التي يضجّ بها البلد، لا بد من الوقوف على ما يقود الى بعض من الوقائع المجرّدة والحقائق لاستشراف ما هو مقدّر ومتوقّع من الإجراءات التي تلامس الأزمة النقدية وإمكان الخروج منها بأقل الخسائر الممكنة. وعليه، تطرح مجموعة من الأسئلة في الأروقة المقفلة ومنها على سبيل المثال:

 

ما هي السيناريوهات التي يمكن ان تتحكّم بالقطاع المصرفي مستقبلاً؟


 
 

وهل سنضطر الى فرض الـ«هيركات» على أموال المودعين وتنظيم «الكابيتال كونترول»؟ واذا وقعت المواجهة القضائية بين الدولة وحاملي سندات «اليوروبوندز» بعد فشل المفاوضات التي يستعد لها لبنان هل يمكن الحجز على أصول الدولة وأملاكها؟ وما الذي يمكن ان تعكسه العقوبات الأميركية المتواصلة على «حزب الله» أشخاصاً ومكونات والتي صدرت منها دفعة في الأمس القريب مع ترقّب أخرى في وقت ليس ببعيد؟


 
 

من المؤسف أنّ أيّاً من أركان حكومة «مواجهة التحديات» قد وجد جواباً كافياً او شافياً لِما هو مطروح من هذه الأسئلة وشبيهات لها. فكل ما أنجزته اللجان الوزارية ومعها فريق المستشارين وبعثة صندوق النقد الدولي ومعها المعنيون في البنك الدولي والمتعاطين بهذه الملفات، بمَن فيهم جمعية مصارف لبنان وحاكمية المصرف المركزي، لم توفّر للبنانيين الأجوبة التي تُرضي فضولهم، رغم يأس معظمهم ممّا يدور في الكواليس والمقار بالنظر الى حجم الثقة المفقودة والتي لا تردها البيانات الرسمية ولا الخطابات الموسمية التي تستجدي انتصاراً او إنجازاً مفقوداً الى اليوم.

 

فكل ما تقرّ به المراجع الحكومية انها تعيش لحظات القلق مع اقتراب استحقاقات هذا الأسبوع، وليس أخطرها القرار المتصل بطريقة التعاطي مع سندات اليوروبوندز المستحقة في 9 آذار الجاري وتداعيات أي قرار يمكن ان تتخذه الحكومة. ففي كل الحالات تعرف أنّ الحقيقة مرة، وأنّ اي إنجاز سيكويها كما سيكوي اللبنانيين.


 
 

وكل ما تقر به المراجع الحكومية نفسها في هذه الساعات الحاسمة انها ما زالت امام 3 خيارات في شأن «سندات اليوروبوندز»، أوّلها الدفع الذي يقود الى السؤال عن مصير ما سيبقى في خزائن مصرف لبنان من أموال لتسيير أمور اللبنانيين وتوفير الطحين والأدوية والمحروقات وبعض حاجات الصناعة الوطنية وما يتصل بحياة اللبنانيين اليومية وسط خلاف حول الأرقام. وثانيها ان خاضت غمار المفاوضات المعقدة مع اصحاب الحقوق بالنظر الى الآليات القانونية ومداها بين الأخذ والرد ان وافق 75% من حاملي السندات الأجانب بعد ان اصبحوا الأكثرية - بين شهر وآخر في عز الأزمة - ومعهم المالكون اللبنانيون على الدخول في المفاوضات سواء أدت الى عمليات «سواب» لا بد منها او في اتجاه أيّ منحى آخر. وثالثها يتصل بعدم الدفع وما يمكن ان يثيره الأمر من ترددات سلبية قد تعوق إمكان تصنيف لبنان في أسوأ المراتب الدولية نقدياً عدا عن الحديث المُحتمل عن إمكان مصادرة «ذهب لبنان» او ممتلكات «الميدل إيست» من طائرات ومكاتب رغم الحصانات التي تحميهما. ولكنها في الوقت عينه لن تكون تجربة لبنانية فريدة، ففي العقود الخمسة الأخيرة سجلت اكثر من 100 عملية من هذا النوع خاضَتها أكثر من 30 دولة في العالم، ولن يكون لبنان أولها ولا آخرها.


 
 

على كل حال، يعترف العارفون أنّ كل هذه الخيارات تفرض على اللبنانيين، عند اختيار أيّ منها، النظر الى أهمية أن يقترن أي خيار بسلّة متكاملة من الإجراءات تخفّف من مخاطر أيّ منها. وذلك من أجل ولوج الطريق التي تقود البلاد الى بر الأمان ان توفّر القرار السياسي الجامع لبلوغ مرحلة الخروج من مجموعة الأنفاق الخطيرة التي دخلتها الى رحاب بصيص من الضوء يدلّ الى الإنفراج بدلاً من الإنفجار المحتوم اذا تقلّصت خيارات اللبنانيين السياسية، وخرجت من اطار استدراج الحصار السياسي والديبلوماسي المضروب على لبنان بفِعل خيارات بعض اللبنانيين خارج جغرافية لبنان والتمسّك بقيادتها الى محور الممانعة.

 

ولا بد من الإشارة الى انّ حال القلق التي تعيشها حكومة «مواجهة التحديات» لا تقف عند قضية «اليوروبوندز» وما يمكن القيام به للتخفيف من تقنين الدولار الأميركي عبر قانون ينظّم «الكابيتال كونترول» أو «الهير كات». ففي موازاة هذه الهموم، البلد غارق في أزمة «كورونا» على وَقع مزيد من العقوبات الأميركية المرتقبة على «حزب الله» وأصدقائه. ولذلك لا بد من عمليات استنفار نقدية وسياسية وديبلوماسية وطبية لطمأنة اللبنانيين على مدّخراتهم وصحتهم والمخاطر المُحدقة بهم. ولذلك، فالحكومة برئيسها ووزرائها يحصون الساعات المقبلة في اعتبار انها ستكون مصيرية عليها حاضراً ومستقبلاً أيّاً كانت النتائج المترتبة على أيّ قرار شكلاً ومضموناً.