أمّا وقد ولدت الحكومة في وقت قياسي ما بين التكليف والتأليف، فلن يكون من السهل على أي كان محاسبتها او تقدير نجاحها في مواجهة الإستحقاقات الداخلية والخارجية منذ الآن. لكن، ووفق القراءة السياسية الأولية يمكن اعتبارها «حكومة مواجهة» إذا ما استمرت مكوّنات الإنتفاضة على رفضها، والتي تعززها القراءة الدولية التي اعتبرتها حكومة «حزب الله» الى أن يثبت العكس. وعليه، كيف يمكن تبرير ذلك؟
 

بمعزل عن كل الكلام الذي قيل في الحكومة من أهل البيت وخارجه، ومجموعة التحركات التي رافقت ولادتها وتلتها فإنّ كلاماً كثيراً إضافياً يمكن ان يقال عنها وفيها. فهي تتحمّل كثيراً إذا ما أُخضِعَت جميعها للتحليل وقراءة الدور والمهمة التي وجدت من أجلها بكل ما تحمله من وجهات نظر عبّرت عنها ملاحظات وانتقادات وآمال وتمنيات متناقضة، عدا عن التوصيفات التي يمكن أن تأتي بها سلسلة المواقف المنتظرة من الداخل والخارج.

 


وأيّاً كانت هذه الملاحظات، ففي معظم ما قيل في ما رافق توليد الحكومة يمكن اعتبارها أنها «حكومة اللون الواحد». فكل المواجهات التي شهدها مخاض التأليف تدفع في هذا الإتجاه، لمجرد أنها معركة انحصرت بين «أهل البيت الواحد»، وقد أدّى «حزب الله» الدور الأساسي في ترتيب العلاقات في ما بين مكوناتها قبل ان يتولى رئيس مجلس النواب نبيه بري إخراج اللحظات الأخيرة ثم يتوّجها رئيس الجمهورية بإحداث بعض التغييرات في التوزيعة الجديدة للوزراء والحقائب في اللحظات الأخيرة تزامناً مع تحضير المراسيم النهائية.

 


قد يكون الدخول في كثير من التفاصيل مُملاً، ولا يعني جميع اللبنانيين. لكن التركيبة النهائية للحكومة أوحَت أنها جمعت الأضداد عند مقاربتهم لعدد من الملفات الخلافية في لبنان وصولاً الى مرحلة التناقض. وهو أمر سيُضعِف قدرتها على المواجهة الداخلية قبل الخارجية. ومردّ ذلك الى بعض الملاحظات التي لا بد منها على سبيل المثال لا الحصر:

 


لا يوحي موقف رئيس الحكومة حسان دياب في مخاطبته الشارع المنتفِض في لبنان، والذي استهلّ به كلمته المكتوبة من منبر قصر بعبدا عقب إعلان مراسيم التأليف، أنه يتحدث باسم جميع مكونات الحكومة. فقد ظهر واضحاً انه مَيّز نفسه عن مواقف الآخرين الذين يشاركونه المهمات الحكومية. فقد قدّم بعباراته التي اختارها بـ»عناية فائقة» بنحو يوحي أنه تبنّى مطالب الانتفاضة واعداً بتنفيذها، في وقت لا يبدو أنّ وزراء آخرين سيشاركون ورشة العمل الحكومية المقبلة مقتنعون بالإنتفاضة او انهم اعترفوا بوجودها حتى اليوم. ففي مقابل وجود وزير او وزيرين سبق لهما أن شاركا في تجمعات وندوات الانتفاضة وسط بيروت ومن على منابر أكاديمية وجامعية ونقابية او في بعض مراكز الدراسات نلاحظ في الحكومة وجود وزراء دانوا تصرّفاتها في اعتبارها من «الأيام السود» التي شهدها لبنان.

 


والى هذه الملاحظات، ظهر واضحاً انّ الجو الذي رافق ساعات ما قبل الولادة أوحى بسيطرة مسبقة لمحور المقاومة على التشكيلة الحكومية. فبعد الدور الذي أدّاه «حزب الله» في ترتيب العلاقات بين حلفائه، شكلت تسريبات بعض الوجوه السياسية والنيابية انها على علم مسبق بأدق تفاصيل المفاوضات الأخيرة للتشكيلة الحكومية وانهم متقدمون في معلوماتهم على ما أوحى به الفريق المحيط برئيسها. فليس خافياً على أحد انّ جهداً بُذل للحديث عن الدور السوري في عملية التشكيل على رغم وجود ما ينفي مثل هذه الأدوار. لكن ما جاءت به التشكيلة من اسماء لبعض الوزراء الذين أسقطوا في اللحظات الأخيرة في التشكيلة الحكومية لتؤكد هذه المعايير والمواصفات، هي التي زرعت الشكوك من وجود مثل هذا الدور او مراعاته على الأقل.

 


وعليه، فمهما قيل في التشكيلة الجديدة، لن يكون من الصعب جداً الإشارة الى مجموعة المعايير المختلفة التي اعتمدت في التأليف. فعندما جاءت التركيبة في شكلها بـ20 وزيراً، وهي صيغة تعتمد في لبنان للمرة الأولى، تبيّن انها جاءت لتؤكد انها فرضت كالقدر الذي لا يُرد. فعملية التوزيع على المستويين المسيحي والاسلامي أخَلّت بالتوازنات الدقيقة في تشكيل الحكومات كرمى لعين هذا أو ذاك. وهو أمر ثبت بوجود حصص لطرف من الأطراف بنحو لا يتناسب وحجم تمثيله الطائفي والمذهبي، فاضطر رئيس الحكومة على التنقّل بمرشّحيه الى الحكومة من حقيبة إلى أخرى، وهو ما أفقدها الزخم الذي أراده من خلال الاعتماد على اصحاب الاختصاص في بعض الحقائب، فجاء تمثيل البعض المخالف نافراً الى الحدود التي لا يمكن إخفاؤها بسهولة.

 


ممّا لا شك فيه انّ رئيس الحكومة نَوى في كل جهد استطاع إليه سبيلاً تقديم تشكيلة مثالية تشبهه، لكنه اضطر في اللحظات الأخيرة الى التضحية بهذه الصورة في الشكل والمضمون، فأصيبت ببعض الندوب غير الخافية على كثر عند التدقيق في عملية إسقاط بعض الأسماء من غير أصحاب الاختصاص على بعض الحقائب.

 


على كل حال وبمعزل عمّا جرى حتى الأمس القريب، وأيّاً كانت الظروف التي ستتحكّم بالمعابر الدستورية الإجبارية التي على الحكومة سلوكها وصولاً الى نيلها الثقة النيابية، فإنها ستخضع بلا شك أمام اكثر من امتحان واستحقاق داخلي وخارجي. وإذا عبرت كل هذه المراحل ملتزمة الاصول الدستورية التي لا خروج عنها، فهي ستكون في مواجهة سياسية وشعبية قاسية مع الداخل ومع الخارج في آن.

 


وعلى رغم من معرفة أركان الحكومة الجديدة أنّ البيانات البروتوكولية الإقليمية والدولية والأممية الإيجابية التي صدرت وستصدر تزامناً مع الاعلان عنها لن تكون هي الميزان الحقيقي لطريقة التعاطي معها، فإنه سيكون عليها خوض مسلسل التجارب القاسية من أجل استعادة ثقة الداخل قبل الخارج. ففي ظنّ كثر أنّ مثل هذه الثقة الداخلية ستقود حتماً الى استدراج الخارج، فإذا بقيت الانتفاضة الرافضة لها على زخمها سيطرح الكثير من علامات الإستفهام حول ما سيكون وقعها في الخارج.

 


وما بين هذه وتلك، لا يمكن تجاهل ما جمعه دياب من ضمانات عربية وغربية لمساعدته على الإقلاع بحكومته، وهو ما سيدفع ربما الى قراءة جديدة لِما ستلقاه الحكومة من دعم لتجاوز أخطر الأزمات التي يعانيها لبنان. والى أن تأتي المعطيات الجديدة بما يغيّر ما هو مُنتظر، ستبقى «حكومة مواجهة» اشترَت بتركيبتها كثيراً من الخصوم، وهو ما سيعبّر عنه حجم الثقة النيابية المنتظرة، فليس مضموناً أنّ ما ناله دياب في التكليف سيحظى به في التأليف.