بمعزل عن موقف الرئيس سعد الحريري بأنّه لن يكون مرشحاً لتشكيل الحكومة المقبلة، فقد كان ثابتاً ان الإستشارات النيابية المُلزمة لتسمية الرئيس المكلّف ستشهد ساعات من مخاض الولادة العسيرة. فتأجيلها للمرة الثالثة شبه مستحيل، إلّا في حال وقوع «زلزال» بالمقاييس المستنسخة لبنانياً عن «ريختر». ولذلك ستعيش البلاد لحظات دقيقة لبت التسمية، قبل ان تُستأنف المساعي لاستنباط «صيغة فذّة» مفقودة. وعليه ما هو الدافع الى مثل هذه التوقعات؟
 

لا تتفق المراجع المعنية والأكثر اهتماماً بتسمية الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة على سيناريو واحد لِما هو متوقع في الساعات القليلة المقبلة. فسلسلة الإقتراحات التي ناقشها رئيس مجلس النواب نبيه بري مع الحريري، الذي كان المرشّح الوحيد للمهمة، لم تفتح ثغرة في سلسلة الجدران السميكة التي اصطدمت بها مشاريع تشكيل الحكومة الجديدة بالمواصفات المتعددة التي يطالب بها المدعوون الى هذه الإستشارات، وسط لغط كبير طاولَ مفاهيم الميثاقية والتوازنات الدقيقة القابلة للعيش في مجتمع تُقاس فيه المشاريع على عدد الأطراف المعنية بها، ولاسيما مجموعة الأقوياء الأربعة.

 

وأمام هذا التصنيف الغريب - العجيب لتركيبة السلطة في لبنان تتهاوى المشاريع المطروحة واحدة بعد أخرى، نتيجة الخلافات البينية بين من يمكن تسميتهم «حلفاء اللحظة السياسية» وبين من يتمتعون بتماسك قوي بإدارة ثنائية أو أحادية حكمت موازين القوى في المرحلة الأخيرة. ولذلك، باتت اللعبة مكشوفة الى درجة كبيرة لمجرد أنّ منسوب الصراع بلغ الذروة بين «الثنائية الشيعية» و»الاحادية السنّية». فلم يعد هذا الصراع وهماً، بعدما تحول أمراً واقعاً جديداً بدأت ترجمته الفعلية منذ أيام قليلة في الساحات «المستعارة» من «إنتفاضة 17 تشرين الأول»، الى درجة باتت تُنذر بالخطر الذي تتفوّق نتائجه السلبية على ما بلغه المأزق النقدي والإقتصادي.

 

ولذلك، تعزّزت كل المخاوف ممّا هو مُنتظر على الساحة اللبنانية. فكل الاقتراحات المالية والأوراق الاقتصادية وسلسلة الإجراءات النقدية التي حدّدها مصرف لبنان وتطبّقها المصارف بطريقة إفرادية قياساً على ملاءتها المالية تبخّرت واحدة بعد أخرى، وسط توقعات جدّية من بلوغ المرحلة الأخطر التي لا يمكن وصفها أو التكهّن بها بمظاهرها المالية والنقدية وربما الأمنية التي ستشكّل انعكاساً طبيعياً لها الى حدود الإنهيار الكامل الذي يتحدث البعض عنه من دون قفازات ومن دون الدخول في أي تفاصيل، بالنظر الى غموض السيناريوات المحتملة التي لم يعرفها لبنان وتحديداً القطاع المصرفي من قبل.

 

فبين الحديث عن الملاءة المالية للقطاع المصرفي، والتأكيد أنّ ما يحصل لا يعدو كونه أزمة عابرة تتصل بحجم السيولة بالعملات الأجنبية، تقف المعالجات الحكومية عاجزة عن طمأنة اللبنانيين والمسؤولين منهم قِبل المواطنين وسط عملية كباش تتبدّل مظاهرها بين يوم وآخر من دون أن تؤتي النتائج المرجوة منها.

 

عند هذه الحدود من المخاوف من الفتنة المذهبية التي تغذيها موجة «منظمة» من الشائعات، وإنكار الرعاية او تبنّي بعض الحركات الإحتجاجية العنفية، سعى اللبنانيون الى استكشاف ما شهدته «عين التينة» أمس الأول، أملاً بوجود مخارج قابلة للتطبيق للخروج من سلسلة المآزق. وهو ما عكسته أجواء «بيت الوسط» بعد لقاء «عين التينة»، والتي رغم تكتّمها حول ما دار فيها من مناقشات، ولاسيما الصيغ الجديدة التي تسرّبت بالقطّارة، فإنّ المشهد يبدو أكثر ضبابية من قبل عند الحديث عن ضرورة تقديم تنازلات متبادلة ولو كانت موجعة على المدى القصير، ففي المدى الأبعد أفق أوسع للحلول المرتجاة على أكثر من مستوى.

 

فالحديث عن «صيغة فذة» تتحدث عن تركيبة «تكنوقراط» من 24 وزيراً من بينهم ستة «وزراء سياسيين لايت»، مقرونة بحق الأقوياء بتسميتهم يمكن ان تشكّل حلاً مقبولاً، لم يطل كثيراً، فانتهت فترة الغموض التي تلطت خلف منطق «سرّية المفاوضات» على قاعدة الحديث الشريف الذي يقول «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان». وتبخّرت كل الآمال التي توحي إمكان تحقيق خطوة ما باتجاه الإنفراج بإعلان الحريري عصراً بانّه لن يكون مرشحاً لتشكيل الحكومة المقبلة، وأنّه يستعد للتوجّه اليوم للمشاركة في الاستشارات النيابية على هذا الاساس، مع إصراره على عدم تأجيلها بأي ذريعة كانت، من دون أي ضمان بإمكان بلوغ مرحلة التسمية المرغوب فيها بأسرع وقت ممكن. وتحديداً إن صدقت المعلومات التي تتحدث عن استمرار مشاريع الإنقلابات على موازين القوى وإصرار البعض على مشاركتهم في الحكومة، أيّاً كان الثمن الذي سيدفعه لبنان واللبنانيون، وبمعزل عن طرف جديد بات يتحكّم بالمعادلة ويمثّله الحراك الشعبي الذي تمكّن الى اليوم من تعطيل بعض ما هو مطروح.

 

وقبل انقلاب الصورة من «بيت الوسط»، كان هناك من يدّعي أنّ تشكيلة حكومية سريعة يمكن ان تولد في أعقاب الإستشارات التي سيجريها الرئيس المكلّف بساعات قليلة، كانت ستسمح بمواجهة ملاحظات الحراك واستيعابها وإقناع قادة الإنتفاضة بضرورة إمرار الخطوة والإستمرار بمراقبة عمل الحكومة الجديدة ومحاسبتها بآليّات مختلفة، يبدو انّ الحراك يتقنها، وقد برع في إلقاء الأضواء على الكثير منها في أكثر من وزارة ومؤسسة رسمية خلال فترة الإنتفاضة.

 

وأمام هذه الصورة الملبّدة والمليئة بكمّ من الأسرار، وإمكان تغلّب الرغبات والأماني على الحقائق في ما هو مُتبادل من صيغ، فإنّ الأنظار تتجّه الى الحراك الديبلوماسي الأميركي باتجاه لبنان، والذي سيترجمه وصول مساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد هيل تزامناً مع انتهاء استشارات اليوم اذا بقيت في موعدها، والذي بوصوله أحيا سلسلة من المخاوف التي يمكن ان تقود «حزب الله» الى رفض ما هو مطروح من صيَغ اذا جاء بنكهة أميركية.

 

وعليه، وتجنّباً للكثير مما هو مُرتقب من مفاجآت تتصل باحتمال التوصل الى اسم جديد للتكليف يجدر الإعتراف، انّ الرهان على قراءة صحيحة لأرنب الرئيس بري الذي استلّه أمس الأول لم يضمن المواصفات المطلوبة من قِبل الحريري لا في شكله ولا في مضمونه ولا في خلفياته، بعدما أرفقه أمس بتأكيده انّ «الإستشارات مكانها المؤسسات الدستورية». ولذلك ظهر واضحاً انه كان من بنات أفكار «عين التينة» فحسب، ولم يكن منسّقا مع الضاحية الجنوبية للملمة مشاريع الفتنة المذهبية قبل فوات الأوان، ولتحريك المشاريع التي يمكن ان تقود الى مخارج قابلة للتطبيق تتجاوز شروط الحراك الشعبي التي يتوجسونها بالحد الأدنى من الإيجابية؟