الخطر على ثورة بغداد والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والبصرة والديوانية والكوت والعمارة يكمن في “الأفندية” الذين أكلوا مع الذئاب.
 

من حقائق العراق القديم والجديد أن أصغر وأكبر مواطن فيه “مفتّح في اللبن”، كما يقول المثل العراقي، أي أنه لماح ويلقَطُها وهي طائرة، وأن من الصعب خداعَه، حتى لو تظاهر بالغفلة وتعمد التطنيش وأعرض عن اللغو والجدل العقيم.

 

ولكن جميع الذين غرقوا في خيرات العملية السياسية العراقية المغشوشة، قَبل الغزو الأميركي وبعده، لا يسكتون، ولا يسترون عوراتهم، خصوصا وهم يخرجون اليوم، ويغدقون على ثوار تشرين بتصريحات نارية ثورية وطنية لا تزيدهم إلا سخرية ومهانة، وهم لا يشعرون.

 

أليس غبيا ووقحا ومنافقا ومزورا ولا يستحي ذلك الذي كان نكرة وهو يتسكع في مقاهي لندن وطهران وعمان والرياض وبيروت ودبي، ثم جعله التوافق الإيراني الأميركي أيام المعارضة العراقية السابقة، قبل الغزو وبعده، زعيما ورئيسا، وزعيم كتلة أو حزب أو ميليشيا، وأحد أعمدة نظام المحاصصة، ثم مارس كل أنواع النفاق والاستغلال والابتزاز والاختلاس، ثم يأتيك، اليوم، مباركا غضب الملايين الثائرة على نظام المحاصصة، بكل ما فيه وبكل مَن فيه، وباكيا على حقوق الشعب المُنتهَب، ولاعناً الفساد والفاسدين، ومناديا بتغيير القوانين الجائرة الفاشلة وتلبية مطالب الجماهير؟

 

إن أرباب النظام الذي قام في عام 2003 وحتى الأول من تشرين الأول وتشرين الثاني من هذا العام، خصوصا منهم المعممين ومجاهدي البيت الشيعي، لم يتغيروا، ولم يعلنوا أنهم تخلوا، أو سيتخلون عن نهجهم الطائفي السلفي المتزمت، ولا عن فكرهم الظلامي المتخلف، ولا عن تبعيتهم الإيرانية، ولا عن عدائهم المبدئي للعلمانية التي يزعمون بأنها كفر وإلحاد ورذيلة. ولكن، برغم ذلك، دخل الأفندية الذين يرتدون ثياب العلمانية تحت خيامهم، وبإمرتهم، وموافقين، ومؤيدين، وساكتين عن كل موبقاتهم، قابضين ثمن ذلهم ونفاقهم وانتهازيتهم مناصب ورواتب ومكاسب، ومسموحا لهم بأن يحتلوا منازل رجال النظام السابق، ويشردوا أسرهم، ويطلقوا أيدي أشقائهم وأبنائهم وبناتهم في رقاب الناس وأموالهم وحرياتهم وكراماتهم، وبأن يمارسوا الاختلاس والارتشاء والنصب والاحتيال، ولكن دون أن يتجاوزوا الخطوط الحمر التي رسمها لهم قاسم سليماني وهادي العامري ونوري المالكي وفالح الفياض وقيس الخزعلي وأبومهدي المهندس.

 

وللعلم، فصدام حسين وبشار الأسد، وقبله والده حافظ الأسد، وحتى معمر القذافي، كانوا يُصنفون ضمن قائمة الحكام العلمانيين، فقط لأنهم غير معممين، ولأنهم جعلوا شرعيتهم مُنتجَةً علمانية تلدُها انتخاباتٌ واستفتاءات تنتهي بـ”نعم للقائد”، فقط لا غير، برغم أنهم، جميعا، ومَن على شاكلتهم، جاؤوا بدبابة، ثم سقط منهم من سقط بدبابة أيضا، ومنهم من ينتظر.

 

ولكن كل واحدٍ من أولئك القادة “العلمانيين” المتمرسين في السلخ والنفخ كان يذبح العلمانية والديمقراطية، كل يوم وكل ساعة، ويلطخ وجهها بدماء ضحاياه، ويجعل منها مرادفا للظلم والدكتاتورية وحكم السكين والخنجر والساطور، وسلطة الشبيحة والحرس الجمهوري والمخابرات.

 

وفي عراق ما بعد الاحتلاليْن الأميركي والإيراني لقيت العلمانية نفس المصير. فيكفي، لكي تصبح علمانيا، وربما زعيما للعلمانيين في العراق، أن تكون “أفنديا” غير معمم، وأن تُكثر من الحديث عن الديمقراطية، وعن “عدالة” توزيع الوزارات والمناصب، حتى وأنت تنهب، ثم تسكت عن الناهبين ليسكتوا عنك، وأن تتحالف مع القتلة والجزارين وشبكات الخطف والاغتيال والاعتقال، ومع المرابين والمهربين، ومع المتخابرين مع الأجنبي، وأن “تناضل” أنت أيضا، مع مخابرات أجنبية، إيرانية أو أميركية أو بريطانية أو أردنية أو سعودية، ولكن بعلم سفارة الولي الفقيه في بغداد، أو إحدى ميليشياتها “المقدسة”.

 

والآن، وبعد كل ذلك التاريخ المثقل بعلامات الاستفهام الكبيرة، يخرج “بعضهم” على ثوار ساحة التحرير، ناصحا ومناصرا ومباركا بحمية وشهامة ووطنية، وباكيا معهم على الحقوق، وعلى الشرعية، وعلى الثروات المنهوبة، وعلى العدل والنزاهة والضمير.

 

هؤلاء العلمانيين “المزيفين” المتشاركين في نظام المحاصصة، والمستفيدين من الدستور المغشوش، ومن شرعية الانتخابات المزورة، والمطنشين المتفرجين على نكبات الشعب العراقي وكوارثه التي جرها عليه ذلك النظام، مسؤولون مسؤولية مضاعفة عما أصاب هذا الشعب المظلوم أكبر من مسؤولية قاسم سليماني وأعوانه العراقيين.

 

إن الخطر على ثورة بغداد والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والبصرة والديوانية والكوت والعمارة يكمن في هؤلاء “الأفندية” الذين أكلوا مع الذئاب، على امتداد الزمن الطويل الماضي، من 2003 وحتى يوم أمس، ويبكون اليوم، مع الراعي الذي يقدم كل يوم وكل ساعة شهيدا أو مُختطفا أو مفقودا من خيرة فتيانه وفتياته، برصاص هؤلاء الزعماء “العلمانيين” الذين لا يخافون ولا يستحون.