أيّاً تكن النتائج التي سيفضي اليها لقاء باريس فهو لن يغلّف حجم الصدمة التي أحدثتها التطورات الأخيرة على المستوى الدبلوماسي. ففي الكواليس كلام كثير لا يرتاح اليه أهل الحكم والحكومة. ومردّ ذلك الى انّ أحداً لم يكن يحتسب وقوع الأزمة النقدية بهذه السرعة وما سَلّطته الإنتفاضة على معرفة اللبنانيين بحجم الفساد المستشري في لبنان وصمتهم المزمن. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
 

على وقع الاتهامات التي وجّهت الى الانتفاضة الشعبية والإشارات التي عبّر عنها بعض القيادات الرسمية والحزبية عن التدخلات الديبلوماسية التي أوحت بها، لا يخفي عدد كبير من الديبلوماسيين قلقهم من عدم تقدير العديد منهم الوضع في لبنان وإمكان الوصول الى هذه المرحلة المتقدمة من الأزمة النقدية والمالية التي عاشتها البلاد في مرحلة قياسية عدا عن التطورات المتقلّبة بين ليلة وأخرى.

 

وبالرغم من حجم الحراك الدبلوماسي المحدود في مقابل حجم الأزمة الكبرى التي يعيشها لبنان، والذي لم تعرف الساحة اللبنانية مثيلاً له في السنوات المنصرمة، فقد عدّت الزيارات التي قام بها ديبلوماسيون وسفراء الى المراجع الرسمية والحزبية والقيادات السياسية محدودة للغاية، فبعضهم انشغل باستقصاء آراء الخبراء الدستوريين والاقتصاديين والماليين الذين لجأوا اليهم في محاولة لفهم ما يحصل وما يمكن أن تؤدي اليه كل التحركات التي شهدتها الساحة اللبنانية.

 

ويعترف أحد الدبلوماسيين الذي يعدّ من أكثر المهتمين بالساحة اللبنانية، أنه كلّفَ مسؤولين متخصصين بمواكبة التطورات النقدية منذ فترة ليست بقصيرة للتثبّت من صدقية المعلومات التي جمعها من مسؤولين في قطاع المال والأعمال في المرحلة الأولى التي شهدت التشكيك الذي عبّرت عنه مؤسسات التصنيف الدولية للبنان ومؤسساته المالية والمصرفية وأداء الحكومة اللبنانية، خصوصاً تلك التي كان يجري التلاعب بمواعيدها.

 

ففي منتصف الصيف الماضي توقّف أحدهم عند تقارير موثّقة تحدثت عن التدخّل الرسمي لدى بعض مؤسسات التصنيف الدولية لتأجيل مواعيد إصدار تقاريرها بهدف التلاعب بمضمونها وبالمعادلات المالية والمصرفية المستجدة، سعياً الى بناء نتائجها على معطيات يمكن ان تتبدل بين فترة وأخرى، عدا عن المماطلة بتسليم ممثليها عدداً من الجداول المطلوبة المتصلة بحجم الدين العام وما على الدولة من متأخرات في قطاعات عدة أساسية لا يمكن تجاهل حقوقها من المال العام كالاستشفاء والطاقة، او تلك التي تعنى بقطاع الأعمال والمقاولات والمشاريع الإنشائية الكبرى التي يمكن لأصحابها اللجوء الى أشكال متعددة من الحوكمة بفعل وجود ملتزمين دوليين سبق أن ارتبطت الدولة اللبنانية معهم بمواعيد محدّدة لدفع المبالغ المترتّبة، والتي يمكن أن تؤدي الى فرض الرسوم المترتبة على الدولة اللبنانية والغرامات التي يمكن ان تفوق ما يمكن ان ينجم عن تسديدها في مواعيدها.


ويعترف أحدهم أنه أصيب بالصدمة عندما اطّلع على بعض الأرقام التي تتجاهل الدولة اللبنانية تضمينها الموازنات العامة في السنوات الماضية بغية الحفاظ على ارقام متواضعة للعجز المقدّر فيها، وبغية التعمية على ما آلت اليه السياسات التي قادت الى رفع نسبة الضرائب والرسوم التي يمكن تجنّبها في الحالات الإقتصادية الصعبة التي تعيشها الدول، خصوصاً في مرحلة يسهّل فيها المسؤولون اللبنانيون كل أشكال التهرب الضريبي بإحالة سلسلة من الإعفاءات الى مجلس الوزراء لبَتّها، سواء بالنسبة الى تلك التي لا تسدّد الضرائب، او بغية تخفيضها، وهو أمر خطير أدى الى فقدان الكثير من موارد الخزينة.

 

أضِف الى ذلك أنه أقلق الخبراء لجوء البعض الى تسييل المال العام الى جهات نافذة دون أخرى، ومن خارج برامج الأولويات التي كانت تتحدث عنها الموازنات فتتقشف في الكثير من البرامج السكنية والاجتماعية والاغاثية لصالح المشاريع الكبرى التي تقف خلفها أطراف في السلطة ونافذون، عدا عن التلاعب بموازنات المؤسسات التجارية والصناعية والاستثمارية الكبرى والصغرى، كلّ على قياسها، لتقليص الضرائب مقابل بضعة آلاف من الدولارات كان يتقاضاها المحتسبون المكلّفون بهذه المهمات من دون أي اعتبار لإمكان لجوء أحدهم الى هيئات الرقابة للشكوى او رفع الظلم اللاحق ببعضهم وطريقة التعامل السهل مع آخرين، وفق رعايات سياسية وحزبية ومناطقية لم تكن خافية على أحد.

 

لم يعد الدبلوماسيون يخفون انتقاداتهم من مواقف بعض الخبراء الاقتصاديين الذين امتهنوا وضع التقارير «غبّ الطلب»، فيما حوصِر من كان يدلّل قبل عامين عمّا يمكن أن تصل اليه المالية العامة إذا بقيت الدولة تتعامل بهذه القطاعات خارج ما تقول به القوانين والأنظمة فتوسّعت رقعة الإستعانة بالمستشارين أصحاب الوجوه التلفزيونية، والذين كانوا يتمتعون بالحد الأدنى من المصداقية العلمية في مجالات اختصاصهم المكلفين بالتغطية على أبواب محددة كان يمكن إلقاء الضوء على مخاطرها منعاً لوصول البلاد الى ما وصلت اليه تحت شعارات حماية النقد الوطني الذي يحاسب عليه القانون.

 

ويضيف: عند هذه المشاحنات التي حفلت بها الساحة اللبنانية، وقعَ اللبنانيون ضحية الألاعيب السياسية والمالية، وتفرّغَ العديد ممّن يدركون الكثير من الحقائق الى نقل المليارات من العملات الصعبة الى منازلهم او الى الخارج، باعتراف كبار المسؤولين في مصرف لبنان وجمعية المصارف، من دون القيام بأي خطوة يمكن ان تلجم الوضع وتمنع القطاع المالي والمصرفي من الانهيار المحقق. وكل ذلك كان يجري وهم يُطَمئنون من مواقعهم الموثوقة صغار المودعين على أموالهم، ويشيدون بمتانة القطاع المصرفي الى حدود خيالية اعتقدَ فيها اللبنانيون انّ سويسرا ستستعين بالخبرات اللبنانية.

 

قبل ايام قليلة، كشف أحد كبار الدبلوماسيين الممثلين لدولة عظمى عن حجم الصدمة التي عاشها رغم خبرته بالساحة اللبنانية منذ سنوات عديدة، وطرح أسئلة عديدة على زائره الذي كان يلقي الضوء منذ فترة طويلة الى ما يمكن ان تصل اليه الأوضاع، ولم يكن يسمعه أحد. فتساوَت الصدمة الديبلوماسية مع صحة التوقعات التي كان الزائر يحذّر منها، وبقيت النتيجة واحدة انّ الأزمة بلغت ما بلغته نتيجة سوء الإدارة والإصرار على مبدأ المحاصصة بعيداً عن كل أشكال الرقابة، ليشيد الطرفان في النتيجة بما أنتجته الإنتفاضة من إضاءة على حجم الفساد المستشري في كل القطاعات من دون مراعاة للمصلحة الوطنية العليا.