تعدَّدت القراءات الخاطئة للأزمة الليبية بسبب تنوع الرؤى والنظرة والمنظور للأزمة الليبية، فهناك دول تراها من خلال الملف الاقتصادي وترغب في ضمان حصتها في العقود والصفقات، بينما دول أخرى تولي الملف الأمني أهمية قصوى، وإن كانت الأخيرة هي الأقرب إلى تشخيص الحالة الليبية، التي هي أزمة أمنية وليست سياسية، كما تتعاطى معها بعثة الأمم المتحدة بشكل خاطئ، من خلال ستة مبعوثين حتى الآن فشلوا جميعهم بسبب التشخيص الخاطئ لطبيعة الأزمة الليبية.
فحالة الاستقطاب الإقليمي والتنافس الدولي بين إيطاليا وفرنسا مثلاً على إدارة التسوية السياسية، في ظل وجود فوضى سلاح تربَّت وترعرعت طوال ثماني سنوات، تمكَّنت من خلالها هذه الميليشيات من إحداث تموضع وتمركزات لها في ليبيا.

 


ثمة أزمة دولية في ليبيا وليست الأزمة ليبيةً خالصة، وأعتقد أن هذا أصبح مسلماً به نتيجة للفراغ السياسي وغياب الدولة. مسببات التدخل الأجنبي والأموال المتدفقة هي جميعها أسباب تردي الأوضاع في ليبيا، بعد إسقاط الدولة الليبية من قبل حلف الناتو في عام 2011 دون أي خطة دولية بديلة لإعادة بناء الدولة الليبية، وتركت ليبيا ضحية ميليشيات توفر لها السلاح المنهوب من مخازن الجيش الليبي الضخمة، والتي ترك أبواب مخازنها الناتو مفتوحة من دون أن يدمرها، كما دمر القواعد الجوية والبحرية ومنظومات الدفاع الجوي، لتصبح مخازن السلاح مفتوحة لمن رغب في التزود بالسلاح.

 


ليبيا ضحية تدخلات خارجية، وخلط مفاهيم وتفسير قرارات دولية، منذ تفسير قرار حماية المدنيين عام 2011، الذي سمح بإسقاط آلاف الأطنان من القنابل تعدَّت 11 ألف ضربة جوية على مؤسسات الدولة المختلفة، رغم أنَّ حلف الناتو الذي نفذ قرار مجلس الأمن، لم يكن قوى تابعة للمجلس، ولا هو مؤسسة خيرية، ولا منظمة إنسانية، بل هو حلف أحادي القوى، تكوَّن من قوى لها تاريخ استعماري قديم، فتدخلات حلف الناتو كانت تحكمها حزمة من تقاطع المصالح لبعض أعضائه، ولذا كان جزءاً رئيسياً من خراب ليبيا وحالة الفوضى التي تعاني منها بسبب التدخل الغاشم.

 


إسقاط الدولة الليبية في فبراير (شباط) 2011، وليس فقط نظام القذافي، كان من كبرى كوارث المجتمع الدولي والأمم المتحدة والتي مررت قرارات في ظاهرها حماية المدنيين، ولكن لغموض نصوصها وقابليتها للتأويل والتفسير المتضارب جعلت حلف الناتو يستخدمها لما هو أبعد من حماية المدنيين، من زحف ترسانة القذافي العسكرية نحو المدنيين في بنغازي، إلى قمع حراك فبراير المطالب بالحرية والذي سرعان ما امتطاه تنظيم الإخوان أسوة بما حدث في مصر، وأصبحت بذلك ليبيا مأوى للفارين والإرهابيين وتحوَّلت أراضيها معسكراتٍ تأوي وتفرخ الإرهابيين الجدد، بتمويل ودعم قطري تركي.

 


فالأزمة الليبية في الأصل صناعة دولية وليست صناعة محلية، فالبلد كان آمناً مطمئناً مستقراً، وإن كانت تنقصه الديمقراطية وبعض حريات التعبير، والتي كان يقيِّدُها نظام القذافي، وإن كانت بعض الحريات العامة تحسنت مع انطلاقة مشروع ليبيا الغد في 2006 ضمن محاولة إصلاحية قادها نجل العقيد القذافي سيف الإسلام، وهو المتحصل على إجازة الدكتوراه من كلية لندن للعلوم الاقتصادية، فإن مشروعه انتكس من خلال التآمر الذي قاده تنظيم الإخوان عليه من داخل المشروع، بعد أن كان قد انفتح عليهم وشاركهم في مشروعه.

 


الأزمة الليبية تحولت إلى حروب بالوكالة وصراع شركات نفطية على ثروة البلاد النفطية كصراع شركتي توتال وأيني وبرتيش بتروليوم، ومطامع تركيا في غاز شرق المتوسط وليبيا خاصة، الأمر الذي جعل إردوغان يعقد اتفاقية مع حكومة الوفاق غير الدستورية، وهي اتفاقية نهب الثروات الليبية بمزاعم ترسيم الحدود الليبية التركية، الدولة غير الحدودية أصلاً مع ليبيا، ولكن مطامع إردوغان في غاز المتوسط، ودعمه المستمر والمجاهر به لميليشيات طرابلس وجعل ليبيا بيت مال الإخوان، كان سبباً رئيسياً في تردي الأوضاع وحالة الفوضى في العاصمة طرابلس، وتسبب دعمه في عرقلة جهود الجيش الليبي لتحرير العاصمة من الميليشيات وغيرها للاستحواذ على الكيكة الليبية، هو ما عقَّد المشهد الليبي، وكما نشر موقع «فورين بوليسي» عن الباحث صموئيل رماني، قوله إن تنافس الدول الخارجية على عقود الإعمار في ليبيا يعرقل وضع حد للصراع ونهاية الحرب فيها.

 


الليبيون ضحية للتدخل الأجنبي في الأساس، وتجمع الهاربين والفارين من التنظيمات الإرهابية من دول الجوار، بل ووجود قيادات عابرة للحدود مثل الجزائري الإرهاب الكبير مختار بن مختار والتونسي أبو عياض والمصري عشماوي وأبو عامر الجزراوي «والي طرابلس» في تنظيم «داعش» وأبو معاذ التكريتي وغيرهم من قيادات «القاعدة»، و«داعش» التي كانت تدير الصراع، قبل أن يسحقها الجيش الليبي الذي عاد كالمارد من تحت رماد الناتو ليعيد السيادة الليبية المستباحة.