أثبتت التطورات السياسية الأخيرة في لبنان أنه لم يعد واقعياً فصل المطالب المحلية عن الصراع الإقليمي. وكما حصل في العراق، ومن قبله في إيران، أخذ يتأكد أن نظرة الإدارة الإيرانية، ومن يأتمرون بها في هذه البلدان، لا تميز المحلي عن الإقليمي، بل تعد أي مطلب داخلي يسعى إلى التغيير السياسي مدخلاً إلى مؤامرة على نفوذها، في إطار الصراع الإيراني - الغربي الواسع.

 


لبنان لم يخرج من حلقة الربط هذه بين المحلي والإقليمي. ورغم أنه لم يرتفع صوت واحد في احتجاجات الشوارع في لبنان يتطرق إلى دور إيران، أو إلى نفوذ «حزب الله» ومشكلة سلاحه، ورغم محاولات قوى السلطة السياسية الحاكمة إضفاء طابع محلي على مساعي تسوية الأزمة الحكومية، فإن الاتجاه الذي تسير عليه خطة الحل المعروضة اليوم تؤكد ترابط وضع لبنان بالصراع الإقليمي، من خلال السعي الحثيث إلى تكريس انتصار فريق داخلي على فريق آخر، في خرق واضح لما سمي التسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، والرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي. وكان وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة على قاعدة تلك التسوية تطبيقاً لقاعدة وضعها رئيس «التيار الوطني الحر»، الوزير جبران باسيل، الذي بات مفتوناً بالحسابات الطائفية. لقد اعتبر باسيل - آنذاك - أن «القوي في طائفته»، كما سماه، هو صاحب الحق في تولي المنصب الأول المخصص لتلك الطائفة «احتراماً للميثاقية»، أيضاً بحسب تعبير باسيل.

 


كان الحريري المسؤول الوحيد الذي تجاوب مع مطالب الحراك، وأقدم على الاستقالة، مما أدى إلى استقالة الحكومة بكاملها. لم تغفر قوى السلطة السياسية (المقصود بها تحديداً «التيار الوطني الحر» بصفته الحزب الحاكم، و«حزب الله» بصفته الحزب الداعم) للحريري تلك الاستقالة، وبدأت تشاع تعليقات عن أنه أقدم عليها من دون تنسيق مع رئيس الجمهورية، مع أنه لا يوجد ما يفرض مثل هذا التنسيق على رئيس الحكومة، إذ إن كل ما يفترض أن يقوم به هو تقديم استقالته الخطية إلى الرئيس، كما فعل الحريري. غير أن قوى السلطة السياسية التي نتحدث عنها عدت منذ بداية الحراك أن المطالب والشعارات المرفوعة تمثل تهديداً لإنجازات «العهد القوي»، وهي «إنجازات» يعوّل عليها «التيار» كثيراً لتمهيد الطريق أمام الرئاسة المقبلة للوزير جبران باسيل. كذلك عدت قوى السلطة أن تحرك الشارع يشكل «مؤامرة» على «حزب الله» تحركها أيد خارجية، وهو الاتهام الذي وجهه الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، للحراك في خطبه الأولى بعد انطلاق المظاهرات في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

 


لقد رأت تلك القوى السياسية أن استقالة الحريري جاءت في إطار المؤامرة نفسها: ضد العهد وضد الحزب. قيل هذا الكلام صراحة في البداية، وجرى الحديث عن دور للسفارات في تمويل المظاهرات، وبلغ الأمر بالأمين العام لـ«حزب الله» أن طالب المتظاهرين في إحدى خطبه بتقديم إثباتات عن الجهات التي تؤمن لهم الطعام والخيم التي يبيتون فيها وسائر حاجاتهم اليومية.
أما النائب محمد رعد، رئيس كتلة نواب «حزب الله»، فقد قارن المواجهة التي يخوضها الحزب ومؤيدوه ضد الحراك الشعبي بأنها تشبه الحرب التي خاضها الحزب مع إسرائيل في يوليو (تموز) 2006. ولم يتردد رعد في القول: المسألة كبيرة، بأبعادها وأهدافها ونتائجها، لكن كما انتصرنا في تموز سننتصر الآن في هذه الحرب. وبالطبع، تجاهل رعد أن الانتصار في هذه الحرب سوف يكون على شعبه، مما يجعله أقرب إلى «انتصار» مايو (أيار) 2008 في شوارع بيروت، وليس مع إسرائيل، حيث كان النصر بمثابة الهزيمة.

 


لم يكن ممكناً أن تكون مواجهة حراك الشارع من القوتين الأساسيتين الحاكمتين بالطريقة العنيفة التي كانا يتمنيانها؛ أولاً لأن قائد الجيش العماد جوزيف عون لم يتجاوب مع مطلب قمع المتظاهرين وفتح الطرقات بالقوة ومنع الحشود في الساحات. وثانياً لأن «حزب الله» وجد نفسه في مواجهة انتفاضة حقيقية في معظم مناطق نفوذه: في بعلبك - الهرمل كما في النبطية وصور، ولم يكن سهلاً عليه تسويق نظرية «المؤامرة» أو إلصاق التهم بالمحتجين، بعدما وصلت الأمور إلى قاعدته الشعبية. هنا، التف نصر الله على الحراك، وأخذ يوجه الدعوات إلى محاكمة رموز الفساد في السلطة، بدءاً بوزراء ونواب «حزب الله»، وكل من يتولون مسؤوليات حكومية من أعضائه.

 


وكان لا بد للسلطة السياسية، ممثلة بالحزبين القويين الحاكمين، أن تستعيد زمام المبادرة. فإذا كانت وجهة نظرها أن في الأمر رائحة مؤامرة، فالطريقة الأفضل لتطويق هذه المؤامرة هي بالمواجهة المباشرة مع الخصم الذي يتمثل بسعد الحريري. أخذت الحملة وجوهاً متعددة، من بينها إنكار حقه في تشكيل الحكومة التي عرضوا عليه ترؤسها بالطريقة التي يعد أنها تؤمن فرص نجاحها أمام الأزمة الصعبة التي تمر بها البلاد، كما تلبي مطالب المتظاهرين في الشوارع. أما الوجه الآخر للحملة على الحريري، فتمثل في محاولة تطويقه ودفعه إلى خفض شروطه، انطلاقاً من أن «البدائل موجودة»، ومطالبته بدعم هذه البدائل، واتهامه بالعرقلة، وبأنه يريد رئاسة الحكومة له وحده دون أي شخص آخر، على أساس «أنا أو لا أحد»، إذا رفض التجاوب.

 


وزاد من حدة النقمة على الحريري ذلك البيان الذي أصدره، ووجه فيه اتهامات مباشرة لرئيس الجمهورية بإنكار الوضع الخطير الذي تمر به البلاد، وتجاهل مطالب الشارع. وانتهى الحريري في ذلك البيان إلى الرد على منتقديه بشعار «ليس أنا بل أحد آخر»، مؤكداً رفضه القاطع لتولي رئاسة الحكومة. كان ذلك أول تصعيد علني بين الرجلين منذ التسوية الرئاسية.
وبعد موقف الحريري، أخذ الاحتجاج السياسي يأخذ طابعاً مذهبياً، تمثل بموقف عالي النبرة من رؤساء الحكومات السابقين (فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام) ينتقد الطريقة التي يدير بها الرئيس ميشال عون والوزير باسيل الاستشارات لتسمية رئيس جديد للحكومة، بعد تجاهل النص الدستوري الذي يُفترض بموجبه أن يدعو الرئيس إلى استشارات نيابية ملزمة، يكلف بعدها (وليس قبلها) رئيس الحكومة الجديد الذي تسميه أكثرية النواب. لم يكن هذا هو الخرق الوحيد لاتفاق الطائف الذي أقدم عليه رئيس الجمهورية (الذي لم يكن من مؤيدي هذا الاتفاق أصلاً)، لكنه كان خرقاً فجاً لأنه يطال موقع رئاسة الحكومة، وما تمثله على الصعيد الوطني.

 


انتهى الأمر الآن بحشر الحريري بين الموافقة على شروط الوزير باسيل وحسن نصر الله بترؤس حكومة تكنو-سياسية أو إرغامه على الموافقة على تولي شخصية أخرى منصب رئاسة الحكومة. يمكن أن يعد البعض ممن يديرون هذه اللعبة السياسية أن هذا الحل (أو الحشر) يشكل مخرجاً للعهد، وينقذ «حزب الله» من «المؤامرة» الخارجية التي يزعم قادته أن الحراك الشعبي أصبح أداة لها. لكن هذا المخرج، الذي سيكون صورة غير منقحة عن الوضع السابق، لن يساعد على حل الأزمة الاقتصادية التي ينوء تحتها البلد، وسيكون بعيداً عن إرضاء مطالب المتظاهرين.