القوى الماسكة بالسلطة والسلاح والثروة، تراهن على الوقت وإتعاب الشباب، لكن الثوار يفاجئون الجميع كل يوم بفعاليات مرهقة لأعدائهم.
 

لم تتمكن القوى المعادية لشعب العراق وشبابه من إخماد وسحق الانتفاضة الشبابية المتواصلة منذ الأول من أكتوبر الماضي، رغم حملات العنف المفرط والقتل، في ظل نظام متورط شكليا بادعاء القبول بمعايير الأنظمة الديمقراطية. وقد استخدم النظام الطائفي في عمليات القمع أسلحة محرمة دوليا، لا تستخدم عادة حتى في الحروب، ضد شعب متظاهر سلمياً يطالب بحقوقه المشروعة دستورياً.

لقد فشلت المحاولات الأولى لشيطنة الانتفاضة وتزييف وتشويه وقائعها باتهام شبابها بأنهم مدفوعون من قوى خارجية، حيث أعلن رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي أن الحكومة تواجه جيشاً منظماً له قيادة ومنتسبون، في وقت واصلت فيه الإصرار على عدم كشف أسماء القتلة والجهات المرتبطة بها.

حاول عبدالمهدي التمويه على حقيقة الانتفاضة وأهدافها الوطنية في “استعادة وطن” وتنصل من مسؤوليته الدستورية الأولى بأنه حامي المواطنين، لكنه كشف عن أنه لا يتحكم بالدولة، حين نزل إلى مستوى التوسل بمختطفي موظف أمني كبير في جهازه الحكومي ليطالب جهات منفلتة بإطلاق سراحه رغم ترجيح علمه بهوية تلك الجهات.

هذه الوقائع تؤكد على حقيقتين مهمتين من ضمن حقائق كثيرة أفرزتها الانتفاضة العراقية العظيمة. الحقيقة الأولى هي أن ما يحصل في الشارع العراقي الملتهب الآن في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب هو صراع سياسي بين شعب مضطهد ومظلوم ومنهوبة أمواله وبين طبقة سياسية طائفية وفاسدة وصلت إلى أسفل درجات الانحطاط السياسي. وخلال يوميات الصراع أصبحت الاصطفافات مكشوفة ما بين شباب واعين منفتحين على العالم لا علاقة لهم بجميع موروثات الأدلجة السياسية والدينية وبين سراق وقتلة وفاسدين تحميهم إيران بإمكانياتها الكثيرة.

لقد خسرت قوى السلطة الكثير من أسلحتها المعنوية التي كان لها تأثيرها المهم في الوسط الشيعي منذ وصول القوى السياسية الحالية إلى السلطة بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. فقد عجّلت الانتفاضة التي وحّدت العراقيين في كشف حقيقة ولاءات السياسيين وعرّت أوراق احتمائهم الزائف بالمرجعية الشيعية.

وأصبح الفرز السياسي واضحاً بعد ظهور وثيقتين سياسيتين متعاكستين من مرجعيتي النجف وطهران، الأولى تمثلت بتمرير الولي الفقيه الإيراني علي خامنئي، الشفرة لأعوانه في العراق بتوجيه أوامر مكشوفة لتصفية المنتفضين في ساحات الاحتجاجات العراقية، حين وصفها مع انتفاضة اللبنانيين بأنهما “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة وأنها مؤامرة من الأعداء تهدف إلى التفريق بين إيران والعراق”.

أما الوثيقة المقابلة فقد تضمنها البيان السياسي الأخير للمرجع الشيعي في النجف علي السيستاني الذي صدر بتاريخ 15 نوفمبر الجاري، والذي أكد فيه على الانحياز الكامل إلى جانب المتظاهرين السلميين، رغم عدم إفصاحه بوضوح عن الحل الأمثل وهو تغيير الحكومة وإحداث التغيير السياسي الشامل. لكن السيستاني عبّر عن تضامنه مع المتظاهرين بقوله “إن المواطنين لم يخرجوا إلى المظاهرات المطالبة بالإصلاح بهذه الصورة غير المسبوقة بكل ما تطلّب ذلك من ثمن فادح وتضحيات جسيمة، إلاّ لأنهم لم يجدوا غيرها طريقاً للخلاص من الفساد المتفاقم يوماً بعد يوم”.

ليس من السهل حسم الصراع القائم خلال أيام معدودة بين شباب الثورية العراقية العزل وبين القوى الماسكة بالسلطة والسلاح والثروة، التي تراهن على الوقت وإتعاب الشباب المنتفضين، لكن الثوار كانوا يفاجئون الجميع كل يوم بفعاليات مرهقة لأعدائهم وتؤكد أنهم لن يقفوا دون تحقيق جميع مطالبهم.

المؤشرات اليومية تؤكد استمرار وتصاعد الانتفاضة الشعبية، رغم انعدام توازن القوى بين جهات لديها أدوات قتل متعددة وبين شباب ثائرين بصدور عارية إلا من علم العراق وشعار “نريد وطن” في وقت تكشف فيه “القوة الثالثة” الغامضة عن وسائل بطشها بالشباب المنتفضين بالقتل أو الاختطاف. وجاءت تصريحات وزير الدفاع العراقي تأكيداً لهذه الحقيقة حينما برأ القوات المسلحة النظامية العراقية من جريمة قتل الشباب وأكد وجود الطرف الثالث، الذي يوجه أسلحته للشباب والأجهزة الحكومية.

 لقد شخص المنتفضون الدور الإيراني الخبيث لقمع انتفاضتهم وكانت أمثلة ذلك التشخيص في تظاهرات شباب كربلاء وإغلاقهم للقنصلية الإيرانية ورفع العلم العراقي على بنايتها وإنزال صور خامنئي وسحقها تحت الأقدام، وكذلك استبدال اسم شارع الخميني في النجف باسم شارع شهداء ثورة تشرين. وقد زاد ذلك من غضب أركان الحكم في طهران وكشف حقدهم الدفين على الشيعة العرب حين وصفهم موحدي كرماني خطيب جامع طهران بـ”شيعة الإنكليز”.

وأثبتت التظاهرات الإيرانية في الأيام الماضي صحة مخاوف ومحاذير زعيم النظام الأول خامنئي من امتداد عاصفتها إلى ضفتهم الإيرانية ومخاوفه من نهاية مشروع الفساد والنهب الذي ظل لسنوات يحميه بشعاراته الأيديولوجية الدينية. وقد كشف واحد من أهم زعامات حزب الله اللبناني وأمينه العام ما بين 1989 إلى 1991 صبحي الطفيلي هذه العلاقة حين وصف خامنئي بأنه أكبر حام للفساد في العراق ولبنان وهو المرشد العام للفاسدين.

عناصر ومقومات مطاولة الثوار كثيرة. وهي تزداد قوة كل يوم، منطلقة من إصرارهم على تحقيق إصلاح جذري شامل في قمة هرم السلطة ومنظوماتها عبر إزاحة القوى الحزبية التي نهبت العراق، وإيجاد بديل وطني أعلنوا عن مقدماته في البيانات والإعلانات الخارجة من ميدان التحرير.

ديمومة هذه الانتفاضة تأتي من خلال الإسناد المعنوي والمادي من أطياف شعب العراق، والتي تعبّر عنها الصور الرائعة المنقولة عبر المقاطع الفيلمية ومبادرات الدعم الراقي من الفنانين العراقيين الأُصلاء بالأغاني والأناشيد الوطنية ومن مثال انتصار فريق الرياضة العراقي على إيران.