طموحات الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون ومبادراته منذ وصوله إلى قصر الإليزيه، لم تنجح في تسجيل أي اختراق ملموس.
 

يركز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأسابيع الأخيرة على مقاربات نظرية تتصل بالسياسة الخارجية والتوازنات العالمية، إذ أعلن خلال مؤتمر السفراء الفرنسيين، في أغسطس الماضي: “إننا نعيش نهاية عصر الهيمنة الغربية على العالم وصعود قوى مثل روسيا والصين والهند”.

وعشية الذكرى السبعين لتأسيس حلف شمال الأطلسي اعتبر ماكرون أن الناتو في حالة “موت سريري” في سياق مقابلة مع مجلة “الإيكونومست” البريطانية. وحذر في تلك المقابلة أيضاً من وجود أوروبا على حافة الهاوية وتحدث عن احتمال اختفائها عن مسرح اللعبة الدولية، إذا لم تتمكن من استعادة مقومات القوة وتبلور سياسة دفاعية وخارجية متماسكة.

بيد أن طموحات الرئيس الشاب ومبادراته منذ وصوله إلى قصر الإليزيه، لم تنجح في تسجيل أي اختراق ملموس، وذلك لعدة عوامل موضوعية ولأسلوب ماكرون نفسه. ولذا يبقى الأهم أن يقترن التوصيف الصحيح لأحوال أوروبا والعالم بخطوات ملموسة أو منتجة في عالم “الفوضى الدولية”.

منذ انتخابه في مايو 2017 سعى ماكرون للاقتداء بالرئيسين السابقين الجنرال شارل ديغول وفرنسوا ميتران وتقليدهما استناداً إلى تاريخ فرنسا في مجمع الأمم، لكنه حاكى أيضا سيرة الإمبراطور الشاب نابليون بونابرت ودوره في صناعة الأمجاد الفرنسية الغابرة. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يلمح الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الخلط المقصود بين ماكرون ونابليون، ليس لأنه مولع باستخلاص مقارنات تاريخية، بل للرد على انتقادات ماكرون له حول الانسحاب من سوريا وترك الأكراد لمصيرهم بعد قتالهم مع “التحالف الدولي ضد داعش”.

وفيما يتجاوز مناكفات أو تانغو ترامب-ماكرون، يبدو أن نهج الرئيس الفرنسي وسياساته المتغطرسة حسب البعض، لا يلقيان الترحيب ولا يحصدان النتائج عند غالبية المعنيين.

في الملف النووي الإيراني أدى إصرار الرئيس الفرنسي على دوره الوسيط وحماسه لترتيب التفاوض بين واشنطن وطهران بالمرشد الإيراني علي خامنئي إلى نعت ماكرون بـ”الساذج أو المتواطئ مع الأميركيين”.

أما في إطار الملف السوري ومكافحة الإرهاب والعملية التركية الأخيرة في الشمال السوري، فقد تعوّد الرئيس رجب طيب أردوغان على مهاجمة نظيره الفرنسي. وقام أخيراً بذلك من على منصة البيت الأبيض معتبراً أن حديث ماكرون عن “الموت السريري” لحلف الناتو غير مقبول، مع أن تصريحات الرئيس الفرنسي أتت في سياق استنكاره لتصرفات تركيا “العضو في حلف شمال الأطلسي” وللموقف الأميركي منها.

على صعيد العلاقة ما بين ضفتي الأطلسي، لم يتردد ماكرون في وضع الإصبع على الجرح غامزاً من قناة الرئيس دونالد ترامب، الذي يتعامل مع “حلف شمال الأطلسي كمشروع تجاري وأنه مقابل المظلة الاستراتيجية التي توفرها الولايات المتحدة لأوروبا، تطلب واشنطن الهيمنة التجارية والاقتصادية”.

وبالرغم من دعوته إلى إقامة ركيزة أوروبية لحلف شمال الأطلسي في ظل أحادية وانعزالية أميركية ترتسم في الأفق، لاقى تقييم ماكرون الاستهجان والنقد من قبل مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي الذي لا يزال يشيد بدور الناتو (الذي كان يتم التعويل عليه بعد الحرب الباردة ليكون شرطي أو جندرمة العالم حسب الرغبة الأميركية).

أما الشريك الأوروبي الأول لفرنسا، أي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد تحفظت على الرؤية الراديكالية لماكرون، فيما أدانت بولندا وعدة دول أوروبية مقاربة ماكرون.

لكن الترحيب أتى من روسيا التي اعتبرت كلامه من ذهب. وسجلت زيارة ماكرون الأخيرة إلى الصين نجاحاً كبيراً في عدة ملفات، علماً أن الصلة الفرنسية مع الهند متقدمة في أكثر من مجال.

وهكذا يتضح أن الرئيس إيمانويل ماكرون يسعى للتأقلم مع تطور النظام الدولي في سياق إعادة تشكيله ويحاول الحفاظ على موقع فرنسا وأوروبا فيه.

في العودة للبعد التاريخي، منذ بداية الجمهورية الخامسة في العام 1958 تخطت فرنسا وزنها سياسياً واستراتيجياً. وتم تحقيق ذلك من خلال تحديد أهداف واضحة، وذلك باستخدام جميع الأدوات الضرورية، بما في ذلك استخدام القوة الصلبة على أكثر من مسرح، والاستفادة من وزن المجموعة الأوروبية ومن عضوية باريس الدائمة في مجلس الأمن الدولي.

بالنظر إلى الحمض النووي التأسيسي لتركيبة البلاد والمؤسسات، تقود الرئاسة الفرنسية السياسة الخارجية وتدير الأوركسترا لتطبيقها. وفي هذا المجال يسير ماكرون على خطى أسلافه السبعة. لكن تصميمه ومبادراته يصطدمان بالتراجع النسبي لأوروبا عامة ولفرنسا خاصة، في ظل عدم امتلاكها وحدها إمكانيات تنفيذ سياسة طموحة على مستوى كوني.

ولهذا بالرغم من اندفاع ماكرون الشاب وميله إلى الاضطلاع بمسؤوليات تاريخية في قيادة الدبلوماسية الأوروبية، تبقى هذه القيادة افتراضية في ظل ألمانيا مشلولة عملياً بوجود ائتلاف كبير غير متجانس ومستشارة بمثابة بطة عرجاء في ختام حياتها السياسية.

ويزداد الموقف تعقيداً مع المملكة المتحدة المنشغلة بتداعيات البريكست، ومع إيطاليا غير الواثقة بخيارها الأوروبي وإسبانيا التي تعاني من عدم استقرار في حكمها.

استناداً إلى الهشاشة الاستراتيجية الأوروبية وبدء الاستنكاف الأميركي عن القيادة السياسية والعسكرية للغرب، يراهن إيمانويل ماكرون على بديل أوروبي، لن يتكون بانفتاح على روسيا من دون مقابل، ولن يتوافر من دون تشاور مسبق مع الشركاء، واستنهاض لمشروع أوروبي يزداد الاحتجاج عليه في الداخل الفرنسي.

ولذا فإن خوف ماكرون الكبير هو خيبة أمل فرنسا من رئاسته، ويذكرنا ذلك بشكل غريب بما جرى منذ أربعين عاماً مع رئيس شاب مماثل وإصلاحي بشخص فاليري جيسكار ديستان. ولذا يركز التوجه الأوروبي لماكرون على منع صعود زعيمة اليمين الوطني المتطرف مارين لوبان. ومن هنا تتنكر أحياناً سياسته الداخلية بثوب سياسة خارجية لن تحدث الفارق المنتظر.

انشرWhatsAppTwitterFacebook