يترقّب اللبنانيون مواقف مرجعياتهم الروحية ليبنوا على الشيء مقتضاه، ويعوّل رجال الدين بدورهم على تأثير تلك المواقف على رعاياهم ولو معنوياً، فيما تعوّل القيادات السياسية بدورها على مواقف تلك المرجعيات في المراحل الدقيقة، ولاسيما في المرحلة الحالية وعلى تأثيرها في خريطة الثوّار وتحركاتهم... فكيف اذا كان القصر الرئاسي وجهتهم وتحديداً رئيس الجمهورية المسيحي؟
 

وفي هذا السياق يقول المطلعون على تاريخ لبنان انه بالرغم من طموح السلطة اللبنانية الى إعلاء «الدولة المدنية»، لكنّ الواقع هو غير ذلك تماماً، لأنه من الصعوبة خرق كيان لبنان المذهبي، ويؤكدون: طالما الموقع المسيحي الرئاسي الوحيد في المنطقة مقرّه لبنان فهناك خوف دائم من قبل رجال الدين من خسارة هذا الموقع، وبالتالي فالاساس بالنسبة لهم اليوم منع إسقاط رئيس الجمهورية بصرف النظر عن موقفهم السياسي منه، لأنهم يعتبرونه إسقاطاً للطائفة، بل للمذهب، وبالتالي بالنسبة للمسيحيين وللبطريركية المارونية تحديداً هو خطّ أحمر.

وتُذكّر مصادر كنسية مطلعة بمواقف الكاردينال الراحل مار نصرالله بطرس صفير أيّام عهد الرئيس اميل لحود، موضحة انه تصدّى يومها لمحاولات إسقاط الموقع الرئاسي الماروني الوحيد في الشرق ولحمايته، معتبراً أنّ الموقع ضمان لوجود المسيحيين في لبنان والشرق.

وعليه، تتخوف المصادر الكنسية اليوم من محاولة إسقاط الرئيس لأنها لو تمّت لن تعود هناك رئاسة جمهورية في لبنان، ففي رأيها أنّه لن يكون هناك اتفاق على رئيس، وسيُصار الى اتّباع آلية سريان الشأن العام في ظل غياب رئاسة أولى، مثلما عاش اللبنانيون سنتين ونصف سنة خلال سنوات الفراغ، وقبل الاتفاق على الرئيس ميشال عون مع «حزب الله» الذي أدى الى دخوله قصر بعبدا.

وتلفت تلك المصادر الى أنّ ظروف الماضي ليست متوافرة اليوم في حال إسقاط عون، لأنّ الجمهورية ستقع في الفراغ الرئاسي حكماً، والاتيان بأيّ رئيس خلافاً لرغبات «حزب الله»، وفي هذه المرحلة الدقيقة التي يمر فيها الحزب ضمن إطار حربه الاقليمية ودوره الاقليمي في المنطقة فهو أمر غير وارد بالنسبة إليه.

وتنبّه المصادر الكنسية الى أنّ هناك خطراً حقيقياً على رئاسة الجمهورية إذا أُسقِط عون، وبالتالي يجب على الرئيس تحسين علاقته مع شعبه، إذ يفترض أن يكون الرئيس الاب والراعي الصالح للجميع لكي لا يُصار الى تطبيق المثل القائل «بعض التصرّفات تجيز المحرّمات».

وتكشف مصادر واسعة الإطلاع لـ«الجمهورية» على خفايا مجالس بعض المرجعيات والأقطاب السياسية المسيحية وآرائها التي تقول «إنّ الخلاص يكون بتشكيل حكومة تكنوقراط، والأسلم أن يترأسها الحريري للاستفادة من علاقاته الخارجية ومن حضوره»، مع الاشارة الى ضرورة التحضير لانتخابات مبكرة. وتقول تلك المرجعيات إنها «لن تساهم في عملية إسقاط رئيس الجمهورية لأنّ تمضية 3 سنوات من المعاناة مع الرئيس عون تبقى بالنسبة لها أفضل من إسقاط الرئيس المسيحي، ولأنها فرضية في حال صحّت قد تكون خسائرها كبيرة جداً على المسيحيين»، لأنّ عون يبقى بالنسبة لهم أفضل من الفراغ ومن المجهول.

في المقابل، هناك وجهة نظر مغايرة يطرحها البعض يلخّصها التساؤل: «ماذا إذا تحوّل موقع الرئاسة في مواجهة الناس وضدها؟ ألا ينعكس ذلك سلباً على المسيحيين ودورهم وموقعهم؟ إذ على من يتبوّأ الرئاسة تعزيز أدائه في المنطقة ليكون في مستوى الرئاسة المسيحية المفترضة... ومتى أصبح دور الرئيس مناقضاً للدور المسيحي الرائد فلن يعود الموقع أساسياً للبعض من المسيحيين في لبنان».

وتضيف المصادر أنّ من الطبيعي أن يكون لـ«حزب الله» رأي في رئاسة الجمهورية، لأنه يمثّل شريحة كبيرة في هذا الوطن، وليس صحيحاً أنّ الرئاسة لن تعود للمسيحيين في حال أسقِط عون، ولأنّ هذا الموقع لا يستطيع أن يكون ضد الشعب وممارسة سياسات مسيحية قمعية، كما أنّ المسيحييّن باتوا لا يؤمنون بالنظريات القديمة التي تقول «نحن مع المسيحيين ظالمين كانوا أم مظلومين».

وفي السياق، بَدا لافتاً إحجام القيادات والمرجعيات المسيحية عن التعليق سلباً أو إيجاباً على الشعارات الداعية الى إسقاط عون، كذلك عن التحركات التي انطلقت الى قصر بعبدا، فيما اكتفى البعض بالمطالبة بحكومة تكنوقراط حيادية مستقلة.

في المقابل، تفرّدت بكركي علناً في الدفاع عن موقع رئاسة الجمهورية ودافعت في الوقت نفسه عن شرعية الحراك ومطالبه، فيما يبقى موقفها معنوياً، تماماً كموقف مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان عند استقالة رئيس الحكومة، فيما توضح المصادر ضرورة التمييز بين الرئاستين الاولى والثالثة، لأنّ استقالة رئيس الحكومة لم تستهدف الطائفة السنية، ولأنّ الحكومة، وهي السلطة التنفيذية، تضم مسيحيين ومسلمين، ولأنّ موقع رئاسة الحكومة بقي محفوظاً بعكس موقع الرئاسة الاولى الذي يبدو للبعض مأزوماً، لكنه يبقى بالنسبة الى الأكثرية المسيحية خطاً أحمر، ظالماً كان أم مظلوماً.