بعد عشرة أيام على إطلاق الهجوم التركي الذي لم يكن ممكنا من دون ضوء برتقالي أميركي- روسي، تغيرت قواعد اللعبة شرق الفرات وفتحت المجال كي تقدم موسكو نفسها كلاعب أساسي.
 

أتت العملية التركية الأخيرة في سياق نزاعات السيطرة والنفوذ والمصالح في الشمال السوري. وعلى مدى السنوات الأخيرة أصبحت المأساة السورية أشبه بالروليت التي تكسبها روسيا تباعا. تكرس هذه الخلاصة الأولية روسيا بمثابة اللاعب الدولي الرئيسي والحكم الأول وذلك بعد الانسحاب الأميركي وبلورة موسكو لترتيب ما بين النظام ووحدات الحماية الكردية.

لكن الاتفاق الأميركي- التركي الذي جرى التوصل إليه في 17 أكتوبر الحالي، زاد من خلط الأوراق ومن تداخل خرائط النفوذ في منطقة شرق الفرات والجزيرة وصولا إلى نهر دجلة قرب الحدود العراقية.

بعد الترتيب الملتبس للرئيس التركي مع فريق الرئيس دونالد ترامب، لن تضمن تركيا ما تريد تحقيقه من دون موافقة سيد الكرملين. ولذا تبدو اللعبة مفتوحة بكل عناصر غموضها وتحولاتها على مساحة الرمال السورية المتحركة.

 

بعد عشرة أيام على إطلاق الهجوم التركي الذي لم يكن ممكنا من دون ضوء برتقالي أميركي- روسي، تغيرت قواعد اللعبة شرق الفرات وفتحت المجال كي تقدم موسكو نفسها كلاعب أساسي بين دمشق وأنقرة وبين دمشق والأكراد ووسيط بين الأطراف المتصارعة للوصول إلى ترتيبات اليوم التالي بعد الخروج الأميركي من شرق سوريا.

لكن ما بين اتفاق 17 أكتوبر الأميركي- التركي واتفاق 11 أكتوبر الذي رعته روسيا ما بين النظام السوري ووحدات الحماية الكردية نلاحظ الكثير من التداخل في مناطق شرق رأس العين وتبدو المنطقة الآمنة (على مدى 400 كيلومتر وعمق 30 كيلومترا حسب طلب تركيا، علما أن نص الاتفاق لم يحددها ولم يفصح شيئا عنها نائب الرئيس الأميركي مايكل بنس) بمثابة “جبنة سويسرية مثقوبة” خاصة بعد انتشار القوات السورية النظامية في منبج وكوباني (عين العرب).

ومن المحتمل أن تكون المنطقة الممتدة بين رأس العين والقامشلي موضع تنازع وليس من الأكيد أن وحدات الحماية الكردية ستنفذ الانسحاب خلال خمسة أيام وفق الاتفاق الذي تسميه واشنطن وقفا لإطلاق النار وتعتبره أنقرة مجرد تعليق للعملية العسكرية المسماة “نبع السلام”.

لا تنحصر المشكلة في التسميات بل تطال المضمون وغالبا ما يكمن الشيطان في التفاصيل، حسب المثل الفرنسي. ففي البيان المشترك التركي الأميركي بشأن شمال سوريا الكثير من العموميات والالتزامات المبهمة تحت يافطة حلف شمال الأطلسي أو من خلال تفهم المخاوف الأمنية لتركيا.

يمثل هذا الاتفاق الحد الأدنى الممكن بين الطرفين الأميركي والتركي ويمكن اعتبار الجانب الكردي الخاسر الأكبر بموجبه، لكن ذلك لا يعني أن الرئيس رجب طيب أردوغان كسب الشوط بسبب المناورة الكردية مع الجانب الروسي، في ظل النقمة داخل الولايات المتحدة إزاء قرار ترامب والاستنكار الدولي والأوروبي والعربي للعملية التركية.كذلك كانت وقائع المعارك في تسعة أيام وصعوبة المواجهة مع المقاتلين الأكراد من العوامل التي خففت الزخم التركي. ومن جهتها لعبت المؤسسات الأميركية لعبة تخفيف الخسائر بعد قرار ترامب والانقسام الذي أحدثه داخل البيت الأميركي إلى حد اتهام رئيس الكونغرس نانسي بيلوسي لسيد البيت الأبيض بتنفيذ الأجندة الروسية.

ونظرا لذلك حاول الرئيس الأميركي من خلال تسريب رسالته المهينة للرئيس التركي ومن خلال التلويح بعقوبات اقتصادية مدمرة عدم إفلات الورقة التركية كليا من يد واشنطن وردع أنقرة عن استكمال استدارتها نحو موسكو.

هكذا في لعبة الحبال المشدودة وضبط الإيقاع على الساحة السورية، سعى أردوغان لتمرير مصالحه وركز ترامب في توجيه رسائله على الداخل الأميركي غير عابئ ببلورة سياسة متماسكة أو استراتيجية إقليمية.

وفي إطار التجاذب القائم في الشمال السوري دخلت روسيا على الخط واعتبرت أن الوضع مناسب لاستكمال سيطرة النظام الذي تدعمه على كل الأراضي السورية خاصة بعد قرار الانسحاب الأميركي. وحسب باحث روسي “تدخلت موسكو في الملف السوري منذ بداية الصراع، لتحدّي واشنطن في المقام الأول، وأتى الدفاع عن نظام بشار الأسد في المقام الثاني”. إذ أن الهدف الأساسي للرئيس فلاديمير بوتين كان “إثبات أنه يمكن أن يضع حدا لما يراه سياسة أميركية لإسقاط أنظمة غير مرغوب فيها”.

وحاليا في شرق أوسط مضطرب تؤكد الأوساط الروسية أن موسكو لا تنوي أن تحل محل واشنطن ولا تكرار ما كان أيام الاتحاد السوفييتي وكل ذلك لنفي أي توجه أو رغبة في الهيمنة الإقليمية. ومع ذلك، عزّز الكرملين قبضته على المنطقة، وفاز، في نهاية هذا التسلسل الأخير، كقوة عالمية مستعدة لملء المكان الذي تركته الولايات المتحدة فارغة.

على صعيد الساحة السورية لا يزال من الأمور المعلقة مصير الوجود الأميركي في قاعدة التنف في زاوية الحدود السورية- الأردنية- العراقية، وكذلك ليس هناك حتى اللحظة من أجوبة حاسمة حول مصير آبار النفط والغاز التي كانت تحت سيطرة حلفاء واشنطن. وهذا يقود إلى التساؤل إزاء مستقبل دور قوات سوريا الديمقراطية في الميزان الإقليمي وكذلك تموضع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات الحماية وما إذا كان الترتيب مع روسيا والنظام هو الأكثر ترجيحا بعد “الطعنة الأميركية” واتفاق 17 أكتوبر.

من جهتها، تصرّ موسكو على “انتشار الجيش السوري رمزيا على جميع النقاط الحدودية ضمن القرار 2254 الذي يتحدث عن «السيادة السورية ووحدة الأراضي السورية». ويبدو أن قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان في 22 أكتوبر ستبحث إمكانية تعديل أو تطبيق «اتفاق أضنة» للعام 1998 الذي تعتبره روسيا أفضل حل للخلاف بين دمشق وأنقرة. وهي مستعدة لتسهيل مفاوضات غير مباشرة أو مباشرة، لتطوير هذا الاتفاق.

وفي نفس الوقت تريد موسكو أن تبحث مع دمشق وأنقرة وقوات سوريا الديمقراطية خطوط التماس بين الأطراف المتنازعة. في هذه الأثناء، تخشى بعض الأوساط السورية المعارضة من مساومة جديدة بين موسكو وأنقرة على حساب مناطق غرب وجنوب إدلب وذلك في سياق وضع اللمسات الأخيرة على مناطق نفوذ وتقسيم واقعي وفق الأمر الواقع بانتظار الحل النهائي للمسألة السورية.