رنة هاتف بين أنقرة وواشنطن تعيد الأكراد إلى أحضان موسكو ودمشق.
 

قدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هدية العام في سوريا. دفعت واشنطن الأكراد إلى حضن موسكو ودمشق بالتواطؤ الكامل مع تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان. بدا أن المكالمة الهاتفية الشهيرة بين الرئيسين التركي والأميركي، قبل أكثر من أسبوع، فتحت الباب لمسار شيطاني خبيث يقلب أمور سوريا ويزلزل الستاتيكو في وضعها، ليؤسس لمسار التسوية المقبلة في هذا البلد.

تصرف الأكراد في شمال شرق البلاد وكأنهم ينفذون خارطة طريق رسمت مسبقا واندفعوا لتنفيذها عن سابق تصور وتصميم بعد الساعات التي تلت بدء الهجوم التركي على مناطقهم.

وسارعت المنابر التركية إلى التهديد والتلميح بأن الأكراد سيذهبون إلى فتح مناطقهم أمام قوات النظام السوري، بل ذهب البعض منها إلى الوعد بفتح المناطق أيضا أمام القوات الإيرانية وميليشياتها.

بدا أن حالة التحفّظ والارتباك التي أظهرتها مواقف الأكراد الرسمية لدى سؤالهم حول الضجيج المتعلق باندفاعهم إلى خيار دمشق، تعبر عن أمل في أن يحدث زلزال سياسي ما في الولايات المتحدة يقلب الأمور رأسا على عقب.

أوحت الضغوط الداخلية في الولايات المتحدة بذلك. صدر ما صدر عن البنتاغون والكونغرس والسيناتور الجمهوري الشهير ليندسي غراهام، ما دفع إلى تحوّل موقف ترامب وقذفه برشقات تهديد ضد تركيا، وإطلاقه الوعيد بتدمير اقتصادها. بيد أن سيد البنتاغون، وزير الدفاع مارك أسبر، الذي سبق أن حذر تركيا من القيام بحملتها العسكرية، هو الذي أعلن خارطة الطريق التي كشفت عن اتفاق الأكراد مع روسيا والنظام السوري.

أنهت واشنطن برمشة عين الحالة الكردية في سوريا. نالت الولايات المتحدة من الأكراد ما تريده، وألقت بهم في أتون الحرب الدولية ضد داعش والإرهاب. لم يكن أمام الأكراد خيار آخر، فإما الانخراط بحرب واشنطن ضد تنظيم أبوبكر البغدادي، وإما أن هذا الأخير سيتقدم وجماعاته إلى مناطقهم ومدنهم وقراهم ويمارس ضدهم ما سبق أن مارسه ضد اليزيديين، وما حاول ممارسته ضد الأكراد في العراق.

عرف أكراد سوريا جيدا أن لقوتهم وحلمهم توقيتا تحدده ساعة المصالح الكبرى. أدركوا أن الجرعات الحالمة التي حصلوا عليها خلال السنوات الأخيرة بسبب ظروف ما، سينتهي مفعولها حين يتغير الزمان وتتبدل الظروف. علّمهم التاريخ الموجع ذلك، وهم تربوا على قسوته، وربما لم يفاجئهم التحول الدراماتيكي السريع الذي قاد إلى انهيار الأوهام خلال ساعات تقررت في اتصال هاتفي بين أنقرة وواشنطن.

التمرين الأميركي الذي يقوده ترامب المرشح والرئيس منطقي ومتوقع في السياق العام للسياسة الأميركية التي انتهجتها الولايات المتحدة في شأن سوريا. أظهرت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما استخفافا بالمصاب السوري، وكشفت عن هامشية المصالح الأميركية في سوريا وعدم أهمية هذا البلد في خارطة المنافع الكبرى لواشنطن.

لم يفعل ترامب إلا ما فعله أوباما. واضح أن ترامب الذي يكره سلفه ويمقت إنجازاته ويجاهر بهوس بتقويض فلسفته في السياسة الخارجية، لا يقوى في سوريا إلا على المشي على الخط الذي رسمه أوباما بمهارة وخبث وماكيافيلية.

سلّم الرئيس الأميركي السابق الملف السوري برمته إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين. غضب أوباما يوما وهدد باستخدام قوة الدولة الكبرى حين استخدم النظام السوري السلاح الكيمياوي ضد مناطق المعارضة في الغوطة الشرقية لدمشق في 21 أغسطس 2013. تحركت البارجات واستُنفرت برلمانات الدول الحليفة للولايات المتحدة موحية بالحرب الكبرى.

وتقدم بوتين بخدماته عارضا القيام بالـ”مهمة القذرة” لصالح الديمقراطيات الكبرى في العالم. موجز القول: لا توسخوا أيديكم ودعوني أتصرف على طريقتي. قدم بوتين السلاح الكيمياوي السوري للعالم. سلمت دمشق ترسانتها وسلمت واشنطن والحلف الغربي سوريا لبوتين.

منذ أن أعطى أوباما الضوء الأخضر للزعيم الروسي للبدء في تدخله العسكري في سوريا في سبتمبر 2015، أسس الثنائي سيرجي لافروف وجون كيري للنصوص المقدسة في السياسة والأمن والعسكر التي تؤمن مواكبة العالم الغربي لمعمودية النار التي أطلقها الروس في سوريا.

وسعت واشنطن والعواصم الحليفة إلى السهر على إزالة المعوقات من أمام آلة الحرب الروسية في ذلك البلد، حارمة المعارضة السورية، التي لطالما ادعت واشنطن ودول أصدقاء سوريا رعايتها ودعم قضيتها، من أي قوة من شأنها التشويش على التفوق الناري الروسي في سوريا.

كان هاجس بوتين ألا يحصل لروسيا ما حصل للاتحاد السوفييتي في أفغانستان حين انتشرت صواريخ ستينغر الأميركية المحمولة على أكتاف المجاهدين تصطاد الطائرات السوفييتية المغيرة مؤسسة لانهيار الاتحاد السوفييتي لاحقا. نجحت واشنطن وحلفاؤها بمهارة في تأمين جثث المعارضة لبوتين قبل قتلها.

يفعل ترامب ما فعله أوباما. يقدم للرئيس الروسي الأكراد ومناطقهم في شرق سوريا على طبق من ذهب. يسلم الرجل لصديقه الروسي، الذي لا يخفي إعجابه به، رأس القضية الكردية في سوريا، كما قدم أوباما له في السابق رأس قضية المعارضة السورية. وبالتالي، فإن لا شيء جديدا، حتى لو كان الأكراد، كما المعارضة التي تُستخدم ضدهم هذه الأيام، يأملون ألا يتكرر هذا الكابوس.

إن الاتفاق الكردي مع دمشق وموسكو يعزز موقف روسيا ويسلم لها، من جديد، قيادة الملف السوري دون أي منافس. الاتفاق انتصار لروسيا حتى لو أن منابر تركيا ستضجرنا في الحديث عن الانتصار، وحتى لو أن المعارضين السوريين الذين يسيرون في ركب تركيا يصدحون بجنون انتشاء بالنصر، الذي وكأنهم خرجوا من أجله منذ 8 سنوات.

الاتفاق يعيد ضبط شركاء عملية أستانة الآخرين، تركيا وإيران، وفق الخرائط الروسية وحدها. فإذا ما عارضت إيران العملية العسكرية التركية التي أباحها ترامب، فإن اتفاق الأكراد مع موسكو ودمشق يحظى برعاية أميركية تؤسس لظهور رعاية دولية يبحث عنها بوتين للتسوية السورية التي تشرف موسكو على ولادتها، والتي ظهر أن الولادة القيصرية للجنة الدستورية هي واحدة من واجهاتها.

الاتفاق يضع حدودا للحملة العسكرية التركية ويرسم خطوطا حمراء تتشارك موسكو وواشنطن في رسمها على نحو يرفع أسوارا أمام طموحات أردوغان في المضي بعيدا في عمق الشمال السوري. ولئن تخرج كل منابر النظام السياسي في تركيا لترد هذه الأيام على تهديدات ترامب وواشنطن والتعبير عن عنفوان تركي يرفض أي تهديد، فإن أردوغان وحزبه وحكومته، سبق أن خبروا (إثر إسقاط السوخوي في 24 نوفمبر 2015) غضب روسيا وزعيمها وذاقوا مرارة حردة، كما أن أردوغان يعرف علقم الاعتذار وتطييب الخاطر الذي اضطر إلى التقدم به لاسترضاء بوتين المتدلل.

انتصرت روسيا مجانا. استثمر الأتراك جهودا عسكرية وسياسية ومالية. استثمر ترامب مواقف دغدغت كتلته الناخبة بوعود سحب القوات الأميركية من سوريا. استثمر العالم الغربي مواقف الإدانة والشجب والاستنكار ضد تركيا وزعيمها وعملياتها العسكرية. وحدها موسكو راقبت الفلاحة والحرث وحضرت حفلة الحصاد.