هي حكومة حزب الله بامتياز. فحتى حين “تدلل” حلفاء الحزب وأرادوا من دياب حصصا وافرة، ضرب الحزب على طاولته فانضبط الجمع وفق ما يرسمه السيّد ودوائره، فدخل هذا وخرج ذاك.
 

نالت حكومة حسان دياب الجديدة في لبنان ثقة جزء ممن حضر جلسة مجلس النواب. نالت الحكومة تلك الثقة الشكلية دون أي إيمان من قبل الحكومة نفسها بأنها ستكون قادرة على إخراج البلد من أزمته.

 

لم تنل الحكومة ثقة اللبنانيين، لاسيما حراكهم الذي لم يخْبُ منذ أربعة أشهر. لكن ذلك لا يهم. ولم تنل ثقة الدول العربية الأساسية المانحة. لكن ذلك لا يهم. كما لا يبدو أنها ستنال ثقة المجتمع الدولي، لاسيما العواصم الصناديق المرشحة لضخ المساعدات المالية العاجلة في شرايين اقتصاد البلد الجافة. ومع ذلك فإن الأمر في عرف الحكومة وراعيها لا يهم.

 

وبين من حضر ومنح الثقة وبين من حضر وحجب الثقة تقف الطبقة السياسية برمتها أمام مأزقها التاريخي. ولئن يمثل الواثقون بالحكومة واجهة المشهد السياسي الذي فرض دياب ورسم حكومته، فإن من شارك في ذلك المحفل، وربما أمّن النصاب له، وحجب الثقة عن الحكومة، ما زال داخل أقفاص المنظومة السياسية التي لم تعترف بعد بأن ما بعد 17 أكتوبر غير ما قبله.

 

سيكون من علامات الساعة أن تنجح حكومة حسان دياب. هي حكومة حزب الله بامتياز. فحتى حين “تدلل” حلفاء الحزب وأرادوا من دياب حصصا وافرة، ضرب الحزب على طاولته فانضبط الجمع وفق ما يرسمه السيّد ودوائره، فدخل هذا وخرج ذاك. وحتى حين انقلب الحزب وحلفاؤه على حكومة سعد الحريري عام 2011، حين كان مجتمعا بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في البيت الأبيض، لم تكن حكومة نجيب ميقاتي اللاحقة بهذه الفجاجة في تبعيتها الحرفية للحزب وأجندته.

 

على الأقل هي حكومة الأمر الواقع، وهي أصدق في نقلها للصورة الحقيقية للبلد من الحكومة السابقة التي، في شموليتها وواجهتها الائتلافية، أوحت للبنانيين، والخارج خصوصا، أنها حكومة لبنانية تقليدية، تشارك فيها جل التيارات الممثلة داخل مجلس النواب بما في ذلك حزب الله، والزعم أن حجم تمثيل الحزب لا يتجاوز حجم حصته الحكومية.

 

كانت الحكومة السابقة أيضا حكومة حزب الله. كان يرأسها سعد الحريري، لكن ذلك لا يغير من حقيقة أن الدولة كلها بما فيها تلك الحكومة تعمل وفق قواعد وأجندة الحزب ولا تعمل إلا بما يتيحه ولا تتجاوز محرماته. وفيما ذهب رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره وزير الخارجية آنذاك إلى الدفاع عن “سلاح المقاومة” وسوْق سياسة لبنان الخارجية حسب ما يتسق مع إرادات الحاكم في طهران، توافق الحريري مع ذلك المنحى بشكل غير مباشر من خلال اهتدائه إلى مسلّمة مفادها أن “سلاح حزب الله هو شأن إقليمي وليس لبنانيا”.

 

حكومة حزب الله الجديدة هي مكمِّلة لحكومات سابقة كان آخرها برئاسة زعيم تيار المستقبل. لم تستطع تلك الأخيرة أن تمنع أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله من شنّ هجماته على دول الخليج، لاسيما السعودية والإمارات، ولم تكن لتمنعه (حتى لو لم تستقل) من الوعد بردّ مزلزل على مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، على نحو منفصل عن رد إيران، و”الجهاد” من أجل طرد الحضور الأميركي من المنطقة.

 

وإذا ما عجزت الحكومة السابقة، التي كانت “تستضيف” وزراء يفترض أنهم أصدقاء للرياض وواشنطن، عن إقناع “الدويلة” بمنطق الدولة، فكيف بحكومة لبنان الجديدة الخارجة من أفران حزب الله ومطابخه أن تعاند ما وجب للحزب أن يتّبعه من مواقف تنهل وجاهتها من يوميات الحكم والحاكم في إيران.

 

غلب حزب الله الشارع اللبناني وأتى بحكومته وفرض على “الدولة” بتياراتها وأجهزتها وقواها الأمنية أن توفر ظروف محضها بالثقة. لم يغلب الحزب الطبقة السياسية اللبنانية التي تكاد برمتها أن تكون لاعبة داخل ما يسمح به الحزب من لعب. حتى في الموقف “المعارض”، القديم والمستجد، لبعض هذه الأحزاب في النيل من العونية السياسية، نزوع نحو عدم التصويب على الأصل والتلهي في ملاعبة الفرع. وعلى هذا فقط، ينظر حزب الله إلى هذا الشارع بصفته النقيض والخصم والعدو الحقيقي وإن قلّ أن أتت شعاراته مناهضة لدويلته.

 

على هذا قد لا يلاحظ العالم كثيرا مداولات جلسة مدبرة في برلمان البلد لإسباغ شرعية على حكومة يراد منها أن تخاطب العالم وصناديقه. ترى العواصم في تسلل النواب إلى مبناهم ومبيتهم بالقرب من جدرانه وتسللهم عبر الأزقة الخلفية المتجهة نحوه، سقوطا مدوّيا لبرلمان جرى “انتقاء” سكانه وفق قانون انتخابات فُصّل على مقاس حزب الله وحلفائه. وترى العواصم في حصار العامة لمجلس النواب واصطدامهم مع جدار الدولة الأمني، ما يَنفخُ في بيروت ما يُنفخُ في بغداد وقبلهما في مدن إيران من تمرد على حكم طهران في المنطقة.

 

وفق هذه الوقائع الدقيقة سيكون أمام لبنان مستقبل صعب لم يشهد مثيلا له منذ الاستقلال. لا نكشف سرا في التذكير أن ازدهار البلد لم يكن يوما نتاج دينامية بيتية جوانية. تعود أهمية البلد إلى ما يراه الخارج مهما في هذا البلد، وليس إلى رواج قطاعاته الاقتصادية في الزراعة والتجارة والصناعة. حتى أن السياحة ونظام المصارف وقطاع الإعلام وغير ذلك لا تعدو كونها أنشطة اقتصادية لطالما كان رواجها رهنا بحسن التواصل مع الدوائر الخارجية، العربية والدولية.

 

لن يقف هذا الخارج مع دولة حزب الله في لبنان. لن يفرج صندوق النقد والبنك الدولي كما أي عواصم من تلك التي يستند على كرمها مؤتمر “سيدر” عن أي عون مالي للبلد وفق الظروف التي قامت على أساسها حكومة حسان دياب. سيكون على هذا الأخير إقناع الولايات المتحدة بفتح صفحة جديدة مع حكومة حزب الله برئاسته وهي التي قذفت الحزب بالعقوبات تلو العقوبات حين كان حاضرا في حكومة الحريري وما قبله. لن تستطيع فرنسا التي تبرّع رئيسها إيمانويل ماكرون بالتواصل مع نظيره اللبناني والوعد بدعم لبنان والوقوف خلف حكومته أن تعاند مزاجا دوليا تقوده واشنطن، بات على نحو رسمي (لندن وبرلين في أوروبا) وآخر مؤجل، يعتبر حزب الله منظمة إرهابية. وسيكون مستبعدا، وفق هذا الواقع، أن تُقدِم دول عربية صديقة للبنان البلد كالسعودية والإمارات على منح الدعم لحكومة محسوبة على جماعة لا يتردد سيّدها في شنّ هجماته عليها ووصفها بأبشع النعوت.

 

لا تعتمد هذه السطور على ما هو تحليلي افتراضي، بل على ما تقذف به الغرف الكبرى من معلومات. لا شيء يوحي بأن الصراع المستعر بين واشنطن وطهران بإمكانه أن يكون أرضية لوضع طبيعي في علاقة لبنان بالولايات المتحدة والمنظومة الغربية من خلفها. يعرف حزب الله وحكومته ذلك تماما ويدرك أن قلب عقارب البوصلة يحتاج إلى تنازلات مفتاحها في طهران، وأنه من العبث التعويل على توازن تؤمّنه بكين الغارقة في موسم الـ “كورونا” وموسكو التي تداهمها واشنطن في إدلب.