إيران تحاول ضبط إيقاعات الجماعات المسلحة الموالية لها وفق سياساتها تجاه واشنطن وليس الذهاب إلى أبعد من ذلك.
 

كلفت طهران رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بالقيام بوساطة لحل الخلافات بين قائدي الحشد فالح الفياض وأبومهدي المهندس، رغم أن من السهل على الجنرال قاسم سليماني القيام بهذه المهمة بين زعيمين يدينان بالولاء لطهران. في ظل تسريبات عن شكوى مقتدى الصدر لدى علي خامنئي خلال لقائه الأخير في طهران بعد فشل محاولته مع سليماني للضغط على المهندس للتخفيف عن رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي.

 

هذه الأخبار وغيرها ليست معزولة عن التأثير الذي أخذ يلعبه الحشد في الحياة السياسية العراقية والاقتراب من الهيمنة الكلية على النظام السياسي. ولدت الميليشيات المسلحة في العراق في وقت مبكر من احتلاله، وكانت ومازالت بعد قيام الحشد متعددة العقائد الفرعية داخل المذهب الشيعي، لكن أغلبها موال لطهران خصوصا تلك التي لم تقبل التدجين داخل المؤسسة العسكرية. لم يكن أحد من العراقيين الحريصين على وطنهم مدركا لذلك الجهد السياسي المنظم الذي اشتغلت عليه طهران للهيمنة على العراق، فقد تسللت تحت غطاء محاربة المحتل الأميركي ودعمت تنظيمات مسلحة عدة تحت عباءة الدعوات المذهبية الخمينية، في حين أن أهل العراق الشيعة هم أصحاب النسب للنبي العربي محمد (ص) ولقبيلة قريش، وهم أحق في تصدير الإسلام ومذهبه الشيعي إلى إيران وغيرها وليس العكس.

 

لم تتمكن إيران من السيطرة على جميع الميليشيات الشيعية المسلحة، فقد كان بعضها لديه مرجعيات عراقية لا تؤمن بولاية الفقيه، وحين فشلت في إغواء بعض فصائل المقاومة السنية المسلحة في فترة الاحتلال الأميركي نصبت لقادتها المصائد لاقتناصهم بين عامي 2006 و2007.

 

كان من الطبيعي رسم دور للفصائل المسلحة الموالية لخامنئي ليحين وقت قطف ثمار ذلك الجهد لحماية نظام طهران وليس نظام العراق. كانت هي المسؤولة والساعية إلى تعميق الخلافات بين زعماء الفصائل المسلحة الرئيسية، بدر وجيش المهدي، وتفريخ منظمات مستقلة، وقد لعب نوري المالكي خلال توليه رئاسة الوزارة لثماني سنوات وبعدها دورا مهما في تلك المهمة، وهو من أذكى السياسيين الشيعة وأكثرهم براغماتية، فهو الذي انقض بالسلاح على جيش المهدي في البصرة عام 2010، في خطوة أرضت الأميركان وأعطت الانطباع بأنه بعيد عن طهران، لكنه انطلق من دوافع تحجيم قيادة مقتدى الصدر الذي ظلت مواقفه لا تعبر عن الطاعة العمياء لخامنئي لكونه معتدا بمكانة والده في التشيع العراقي، لكن المالكي سرعان ما استدار نحو طهران بصورة حيّرت الكثير من المراقبين في تبنيه بناء الميليشيات المسلحة الموالية لها في رسائل عملية ذكية لدعمه في انتزاع السلطة من إياد علاوي عام 2010 وحلمه بولاية ثالثة انتزعت منه كرها، وسُلّمتْ إلى نائبه في حزب الدعوة حيدر العبادي وفتحت أبواب الخلافات الحادة بينهما وأصبحت قصة الحشد واحدة من تعبيرات تلك الخصومة السياسية.

 

المالكي يعتبر نفسه عراب الحشد، وأصدر فور بدء المعارك على داعش عام 2014 مرسوما بتشكيل الحشد الشعبي رغم أن ذلك كان مخالفا للمادة التاسعة من الدستور، وقد نجح في إقناع التشكيلات المسلحة على الدخول في الساحة السياسية وانضمامها إلى كتلته في الحملة الانتخابية عام 2014، ثم التحوّل الكبير الذي حصل في تعزيز مكانة الحشد بعد احتلال داعش لثلث الأراضي العراقية وصدور فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي على جميع العراقيين. وقد تم توظيف الفتوى من قبل المالكي بصورة خاصة للدعوة إلى تحويل الحشد الشعبي إلى مؤسسة وهيئة عامة، وكذلك دعمه لإرسال الفصائل المسلحة للقتال في سوريا دفاعا عن نظامه، وحصلت تعبئة إعلامية واسعة داخل الأوساط الشعبية ركزت على تقديم بطولات فصائل الحشد على دور قطعات الجيش العراقي الذي أصابه الوهن والسمعة المعيبة بعد انهياره المدبّر وهزيمته في الموصل. كما ارتبطت تلك الحالة التعبوية للتمكن والظهور كقوة رئيسية قتالية، ثم سياسية في ما بعد، من خلال الخطاب التعبوي التقديسي لبعض الفصائل “الولائية” وعدم السماح بمس الكيان الجديد بالنقد أو المساءلة أمام القانون.

 

لكن ذلك لم يمنع زعامات دينية كبيرة مثل مقتدى الصدر من انتقاد انتهاكات بعضها وأطلق عليها “الميليشيات الوقحة”. وكانت جميع التوقعات لما بعد داعش أشارت إلى دور سياسي متقدم لتلك الفصائل بتوظيف الانتصار العسكري سياسيا، وهذا ما حصل في انتخابات عام 2018 وأصبحت لتلك الفصائل مقاعد برلمانية تقدر بـ45 نائبا كانت تتقدمها منظمة بدر بزعامة هادي العامري الذي يقود جميع الفصائل تحت اسم الفتح ويرعى الحشد الذي يرأس قيادته فعليا أبومهدي المهندس، وتبوء فالح الفياض لرئاسة الحشد كان رمزيا بعد إقرار قانونه عام 2016 من قبل البرلمان خلال ولاية حيدر العبادي الذي حاول أن يصدّ التمدد السريع للحشد وما يمكن أن يخلقه من إحراج محلي ودولي لا مبرر له. والذي حصل فعليا في الأيام الأخيرة، بروز الخلافات التي تبدو إدارية بين رئيس هيئة الحشد فالح الفياض ونائبه أبومهدي المهندس وهي ليست سوى غضب عابر يمكن للمالكي أن يحله لأنه مرتبط بتداعيات الملف الولائي لبعض فصائل الحشد ومخاطره في زعزعة حكومة عادل عبدالمهدي وحلم المالكي بالعودة إليها، والإرباك في التزامات العراق الوطنية والدولية خصوصا مع الولايات المتحدة.

 

خرجت قضية الحشد من المحلية إلى محورية أزمة واشنطن طهران بعد أن أدخلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نشاط تلك الفصائل في خانة ضرب المصالح الأميركية في العراق، وقررت القيادة الفعلية للحشد والموالية لخامنئي وقاسم سليماني التسريع بمخطط هيمنة الفصائل على الوضع العسكري للبلاد كبديل للجيش النظامي. تمثل ذلك في قرارات نائب الحشد أبومهدي المهندس وهو قائده الفعلي بتشكيل “القيادة الجوية” بعد أن أخذت شوطا في التشكيلات الأمنية والاستخبارية والإعلامية الخاصة بها، والشروع بممارسة الفعاليات التعبوية لمواجهة ما تسميه تلك الفصائل بالخطر الأميركي في العراق وهو في حقيقته خطر على نظام طهران.

 

هذا الاستعجال والحماسة العقائدية في الوظيفة والفعاليات المغالية في التعبير عن الولاء الخارجي وضعا قيادات الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية في حرج الخلط في المرجعيات السياسية للدولة وارتباكها بما يهدد الوضع العام للبلد والعملية السياسية نفسها.

 

لكن طهران أرادت في أزمتها مع واشنطن الانتقال من معادلة “أنها تسيطر على الأرض في العراق مقابل سيطرة واشنطن على سمائه”، إلى شمولية السيطرة أرضا وجوا وإخراج الولايات المتحدة كليا من العراق وتخطي العقبات التي يلخصها كثير من المسؤولين العراقيين في عدم القدرة على التخلي النهائي عن دعم واشنطن للعراق تبعا لتواصل المخاطر التي تحيط به. رد إيران كان يقول إنها قادرة على ملء الفراغ العسكري بالتسليح خصوصا في المجال الجوي الذي سيطرت عليه الولايات المتحدة منذ 16 عاما.

 

إيران تتعدى الآن جميع محرمات التدخلات الخارجية في شؤون العراق، ولا يمكن تغطية هذه المخاطر بالأحاديث الدبلوماسية العامة من قبيل “أن العراق لن يكون وكيلا للصراعات والحروب الخارجية”. المشكلة التي لا تستطيع واجهات الحكم في العراق مواجهتها هي النفوذ الإيراني الشامل، أما ترامب فستبقى قراراته العقابية لا تداوي جراح الحالة العراقية التي أوجدها أسلافه في هذا البلد المبتلى. طهران تحاول ضبط إيقاعات الجماعات المسلحة الموالية لها وفق سياساتها تجاه واشنطن وليس الذهاب إلى أبعد من ذلك، وهي تداري أوضاع الفصائل المسلحة وتحميها وترعاها، لكن تلك الفصائل مغالية في التعبير عن ولائها دون مصالح العراق العليا.