صحيح ما قاله حسن نصرالله في خطابه ما قبل الأخير (16 آب الحالي) عن غياب "الإجماع" الوطني في حرب تموز 2006. والصحيح أيضاً أن نصرالله وحزبه عاقبا وثأرا من أولئك الذين تمايزوا عنهما في مواجهة الحرب وقراءتها، وفي كيفية إنهائها، وفي النظر إلى مسألتي "الانتصار الإلهي" و"ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة".
 
وإذ استطاع حزب الله أن يفرض عقيدة سياسية على لبنان قوامها أن لا سؤال عن بقاء السلاح (خارج الدولة) ولا سؤال عن أدواره خارج الحدود ولا سؤال عن وظيفته الإيرانية –الإقليمية، إضافة إلى تكريس هذا السلاح عاملاً حاسماً وكاسراً في علاقات الجماعات اللبنانية ببعضها البعض وموازينها، ومتغلباً على الدولة، بعسكرها ومدنييها.. استطاع الحزب إياه أن يفرض أيضاً مصادرته قرار الحرب والسلم والسياسة الخارجية، عدا عن "الشراكة" في الأمن، والاستئثار في تقرير مصائر الانتخابات وقوانينها واختيار الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومات، وما فاق ذلك أهمية أو ضاهاها خطورة.
 
بمعنى آخر، فرض حزب الله رابطاً لا فكاك منه بين مصير لبنان وسلاحه، توأماً سيامياً لصيقاً حتى العظم.
 
وعلى هذا، فإن محاولات ما يسمى "استراتيجية دفاعية" تقونن "المقاومة" وسلاحها كفرع من منظومة الدفاع الوطني وحصرها في مهمة حماية لبنان كما هي أدوار القوات المسلحة الشرعية.. هي محاولات فاشلة، طالما أن الحزب وسلاحه ينيطان بأنفسهما أدواراً لا تقتصر على إدلب وحلب والقصير ولا على صعدة والمنامة ولا على البوكمال ولا حتى على شق الطرق إلى القدس. بل ولهما أدوار في صون نظام بشار الأسد وحماية "الثورة الإيرانية" والذود عنهما، ومقارعة الإمبريالية من مزارع شبعا إلى شوارع كاراكاس.. ولذا، "الاستراتيجية الدفاعية" وهمٌ. بل ويراها الحزب خدعة لأسره و"تذويبه" في شروط الانضواء في شرعية وطنية ودستورية. 
 
وإذ يرتّب هذا أعباء وأكلافاً على لبنان تفوق آلاف المرات عبء الدفاع عن بنت جبيل والخيام والضاحية وجرود عرسال.. فالأسوأ أنه يحرم لبنان أصلاً من "خاتمة" لنكباته، ومن نهاية منتظرة لمعضلة الحدود وأمنها، جنوباً وشرقاً وشمالاً وبحراً.
 
والحال، أن الأمور ليست كما قال رئيس الجمهورية قبل عشرة أيام "إن تكررت الحرب فسيتكرر الانتصار". لإن تكرار كمّ الدمار نفسه الذي أصابنا عام 2006، وتكرار مقتل حوالى 1500 لبناني، وتكرار خسائر مادية تفوق 15 مليار دولار، وتكرار تهجير مليون مدني، وتكرار 33 يوماً من الغارات، سيكون شبه مؤكد وربما على نحو أكبر وأفدح، لكن الأكيد هذه المرة لن يتكرر "السخاء" العربي والدولي في التعويض والاحتضان وإعادة الإعمار وتضميد الجراح، بل إيران نفسها لن تستطيع تأمين ما أمنته مالاً ومساعدات، عدا أن حالنا اللبنانية اقتصاداً وخزانة مالية وبنى تحتية وأحوال معيشية، رثّة ومتهالكة.
 
وإذا كان هذا ليس في حسبان "الكرامة" وميزان النصر والهزيمة، فكيف نحتسب أضراراً اقتصادية تصيب العدو أنها عين هزيمته ودليلها؟ وإذا كان هلاك آلاف أطفالنا ونسائنا ورجالنا لا يؤخذ في قياس النصر والهزيمة، فكيف نأخذ بالمقابل مقتل عشرات الإسرائيليين أنه انكسار ونكبة حلت بالعدو؟
 
لا إجماع وطنياً، وسيظل الأمر كذلك، ليس لأن ثمة لبنانيين "شرفاء" ولبنانيين "خونة"، بل لأن مبدأ محاربة إسرائيل وغير إسرائيل (إن اضطر الأمر) من أجل بقاء لبنان لا خلاف عليه، أما محاربة إسرائيل كسبب وحيد في الحياة إلى قيام الساعة، وتقويض السيادة العراقية وغير العراقية، والاشتراك في حروب سرية وعلنية من الخليج إلى أميركا اللاتينية والدفاع عن النظام الإيراني وبشار الأسد وذبح الشعب السوري، والتلويح بحرب أهلية وبقمصان سود وسبعات أيارات كلما أردتم واستسغتم، عدا عن "القديسين" الذي فعلوا المعجزات المرعبة منذ خريف 2004 وإلى موعد مجهول.. فهذا لا إجماع وطنياً عليه إلى قيام الساعة.