ارتبطت السبحة أو المسبحة في مجتمعاتنا الإسلامية بمواسم دينية معينة، حيث تقدم كهدايا خاصة في مواسم الحج أو العمرة، وفي شهر رمضان يتم استخدامها على نطاق واسع كرمزية للتدين المرتبطة بهذا الشهر. ورغم أن الأدلة التاريخية تقول بوجودها في عصور ما قبل التاريخ، فإنها ترتبط في ذهن البعض بالإسلام فقط.
 
تمائم حظ وحماية
يطرح الكاتب بكر بن عبد الله بوزيد في كتابه "السبحة.. تاريخها وأحكامها" عددا من الدلائل التاريخية التي تشير إلى أن السبحة عرفت في الأديان المختلفة في عصور ما قبل التاريخ، وكانت وسيلة للتعبد لدى البوذيين والبراهمة في الهند وغرب آسيا، وعرفت باسم "جب مالا" ومعناها عقد الذكر، وتساوى عدد حباتها مع ما يعبده ويؤمن به الهندوس من أبراج ونجوم وكواكب في مذاهبهم المختلفة.
 
وفي المسيحية، كانت المسبحة تستخدم في العصور المسيحية الأولى (عصور الاضطهاد) كوسيلة للتعارف بين النصارى عوضا عن الصليب.
 
أما في اليهودية فكان للسبحة مكانة كبيرة في طقوس "الكابالا" الشعائر الدينية المرتبطة بفلسفة الكون، وعرفت باسم "ماه بركوت" أي "البركات المئة"، وكانوا يستخدمونها للتسبيح 100 مرة بشكل متتابع.
 
وعند الشعوب القديمة كانت "السبحة" رمزا وتعويذة لطرد الأرواح الشريرة وحماية الإنسان من الحسد والشرور، وكان البعض يعتقد أن غسلها وشرب مائها يشفي من الأمراض المستعصية.

التسبيح بالأنامل
ورد التسبيح لله في القرآن الكريم في عدة مواضع، وبحسب كتاب أبوزيد فإن المسبحة لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام، وكان المسلمون الأوائل بمن فيهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يحسبون ويعدون أذكارهم وأمورهم إما بواسطة الأنامل لزيادة الثواب، أو باستخدام الحصى أو نوى التمر والخيوط المعقودة، فكان للصحابي أبي هريرة خيطا يحوي ألفي عقدة، كما كان له وعاء كبير يحوي الحصى، وعندما ينتهي منه تملؤه جاريته مرة أخرى، وكان لفاطمة بنت الحسين بن علي خيطا معقود تسبح به أيضا.

تاريخ السبحة في الإسلام
بحسب كتاب "السبحة.. تاريخها وأحكامها"، فإنه منذ بداية الإسلام وحتى بداية القرن الثاني الهجري لم يكن المسلمون قد عرفوا استخدام السبحة، ثم انتشر استخدامها في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، بينما تعالت بعض الأصوات بإنكارها في القرن الخامس عشر الميلادي، إلا أن بعض العلماء أفتوا بجواز التسبيح بها بدلا من الأنامل طالما ظلت وسيلة للذكر والتقرب من الله. وينسب إلى الصوفيين الفضل في صنع السبحة بأشكالها الآن.

هواية جمع السبحات
في الوقت الحاضر وكهواية جمع العملات النقدية والطوابع، يجمع البعض مختلف السبحات، ويتباهى بعضهم بعدد ما يملكه من سبحات مختلفة وغالية الثمن، وخصها البعض بأسماء معينة.

ونشأت أسواق كبيرة وباعة متخصصون في الدول العربية كخان الخليلي في مصر، وبغداد والكاظمية وكربلاء في العراق، وكذلك الأسواق في تركيا وبلاد الشام وإيران والأردن.

تحدثنا مع أحمد حسين العلي السوري الجنسية وهو من هواة جمع السبحات العتيقة ومؤسس أحد المجموعات المتخصصة في بيعها عبر الإنترنت. يقول العلي إن السبحات تصنع من خامات مختلفة وتتدرج في قيمتها المادية، فمنها ما يصنع من البلاستيك أو الزجاج، ومنها ما يصنع من أحجار كريمة كنور الصباح، واليسر وهو نوع يستخرج من قاع البحر، والكهرمان الأصفر والأبيض، والفيروز والمرجان.

ومن الأنواع الطبيعية تلك المصنوعة من العنبر، وهي ناتج صمغ أشجار الصنوبر والليمون المتحجرة منذ آلاف السنين، وكلما زاد عمرها زاد سعرها.

أما تلك المصنوعة من مواد صناعية فأهمها المصنوعة من مادة "الفوتوران" المصنعة خلال الحرب العالمية الأولى في ألمانيا منذ عام 1907 وحتى عام 1950، وهي أغلى مادة لصناعة السبحات على مستوى العالم. وهناك أيضا الساندلوس والعنبرويت وجميعها من مشتقات البترول.

ويضيف العلي في حديثه للجزيرة نت أن بعض السبحات تصنع من خشب الكوك وبذر الزيتون والصندل، ويُعرف مدى قدمها من خلال ملمسها ورائحتها. ويستمد خبير السبحات شهرته من خلال ممارسة المهنة ومجهوده في فهم جذورها، وبحسب العلي، فنوع مثل الكهرمان المعروف بالكهربا أو الكربة تعد رائحته الطيبة دليلا على خامته الأصلية.

"السبحات" بالأسواق العربية
يقول العلي الذي يعرّف نفسه بأنه هاوي جمع السبحات القديمة، إن إقبال الفقراء على شرائها أكثر بكثير من الأغنياء، وهم من أهل الهواية دون غيرهم ويتوارثونها عن الأجداد.

وتختلف الخامة المصنوعة منها السبحة بحسب المنطقة، فالكويت تشتهر بالسبحات المصنوعة من الكهرمان واليسر المطعم بالفيروز، والمسبحة السورية في الغالب تصنع من اليسر، وفي لبنان من الكهرب أو الكوربا، وفي السعودية توجد المسابح المصنوعة من اللؤلؤ، وكلما زاد سعرها دلّ على ثراء صاحبها.

وتعتبر مصر سوقا نشطا لصناعة السبحات، وتمتاز برخصها بسبب زيادة الأيدي العاملة وتنوع المواد الخام التي تصنع منها، وهي أكبر سوق لصناعة السبحات في شمال أفريقيا، ويخف تدريجيا كلما ابتعدنا عن مصر كما في ليبيا وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وغيرها، وتصنع من العاج كما في الكونغو الديمقراطية وتنزانيا.