وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والمخابرات وقيادات الجيش وكتائب الحشد الشعبي تملكها وتديرها دولة أجنبية، نهارا جهارا. ووزارة المالية والبنك المركزي ووزارات التربية والتعليم العالي والخارجية والنفط والتجارة ومؤسسات الاستثمار والمصارف كلُها تعمل لخدمة كل من هب ودب خارج الحدود.
 

يُكثر العراقيون اليوم من العودة إلى كتاب حنا بطاطو، أو ديوان الرصافي، أو مؤلفات علي الوردي، أو شعر بدر شاكر السياب، أو أخبار الملك فيصل الأول، أو نوادر نوري السعيد، أو منلوجات عزيز علي، أو إلى كتب المذكرات التي كتبها رؤساء وزارات أو وزراء أو قادة عسكريون من العهود (البائدة)، وما أكثرها في تاريخ العراق الطويل.

وذلك هربا من الغمّ الذي أجاد صُنعه ونشره وتعميمه قادة العراق الديمقراطي الجديد، منذ أن أجلسهم المحتل الأول ثم المحتل الثاني على ظهر الشعب العراقي وأطلق أيديهم في أمواله وكرامته، وسيادة وطنه، وهيبة رئاسة جمهوريته، ورئاسة وزرائه، ورئاسة برلمانه، وقيادة جيشه وأمنه وحرس حدوده. فهم اليوم، مثلهم كمثل المريض المتألم المحتاج إلى مسكنات، يعودون إلى سجلات العهود الماضية، ويقلبون متروكاتها بحثا عن قصص وحكايات، صحيحة كانت أو ملفقة، عن النزاهة والأمانة والوطنية والشرف والكرامة.

والحقيقة أن تلك العهود السالفة، الملكية منها والجمهورية، لم تكن خالية من الفساد والخيانة والتجسس. وفي مذكراته يروي لنا عبدالعزيز القصاب، رئيس الوزراء والوزير ومراقب حسابات الدولة، في أيام الحكم العثماني، وفي زمن الانتداب البريطاني، وفي عهد الاستقلال، حكايات عديدة عن اختلاس ورشوة وتجسس وعمالة. ولو قيست حكاياتُه عن سرقة أو عن استغلال وظيفة أو عن تجسس بما هو جار حاليا لثبت أن تلك العهود، برغم كل عيوبها ونواقصها، كانت ملائكية، وأن قادتها كانوا ملائكة، دون ريب.

الحكاية الأولى
سافر الباشا عبدالمحسن السعدون، ذات ليلة، وهو رئيس وزراء ووزير داخلية بالوكالة، من أحد الأقضية عائدا إلى بغداد، فلم يجد له مكانا في مقصورات الدرجة الأولى، فدخل مقصورة من الدرجة الثانية، وحين وجد رجلا وزوجته قد سبقاه إليها، وكانا نائمين، لم يشأ إزعاجَهما، فصعد إلى الفراش العلوي، بصمت وهدوء.

وبعد فترة أفاق الزوج، وراح يثرثر مع زوجته عن بطولاته وشطاراته في التلاعب بأموال الدائرة الحكومية التي يعمل مديرا لحساباتها، وعن أعمال إجرامية أخرى، وعن سذاجة المسؤولين فيها وعجزهم عن اكتشاف ألاعيبه، والباشا يسمع وهو ساكت. وعند وصول القطار إلى بغداد نزل عبدالمحسن السعدون وغادر المحطة، ولكن بعد أن استقصى من مكتب بيع التذاكر وتعرف على هوية الزوج.

وبعد أيام دخل ذلك المختلسُ نفسُه إلى مكتب وزير الداخلية غاضبا محتجا على طرده من الوظيفة. ولكنه حين شاهد الباشا عبدالمحسن السعدون عرف أن وزير الداخلية الذي يقف أمامه الآن هو شريكه في قطار تلك الليلة. فخجل، وراح يتوسل ويطلب منه الصفح والغفران. فأعفاه الوزير من الطرد، ولكن بشرط أن يعيد لخزينة الدولة جميع سرقاته، وعلى الفور.

الحكاية الثانية
بعد أن استقالت حكومة جميل المدفعي عيّنه رئيسُ الوزراء الجديد ياسين الهاشمي في سنة 1937 مراقبا عاما لمديرية حسابات الدولة التي تقابلها عندنا اليوم هيئة النزاهة في (عراقنا الديمقراطي الجديد).

يقول، لقد كشفنا كثيرا من المخالفات في حسابات الوزارات، وكنا نلفت أنظار الوزراء إليها، دون جدوى، ثم نلجأ لمجلس الوزراء، ونقدم تقاريرنا لمجلس النواب لإطلاعه على المخالفات واتخاذ ما يلزم بشأنها، ولكن لا الحكومة ولا رئاسة مجلس الأمة، ولا أي سلطة عليا قد اتخذت أي إجراء رادع بحق المسيئين في جميع القضايا التي عرضناها عليها.

الحكاية الثالثة
في أعقاب انتفاضة الشعب العراقي ضد معاهدة (بورت سموث) التي وقعها رئيس الوزراء صالح جبر مع الإنكليز في عام 1948 اجتمع الوصي على العرش الأمير عبدالإله بعدد من رجال السياسة لمناقشة الأوضاع المتفجرة تلك. وحرص الوصي على أن يكون الاجتماع سريا للغاية، وشدد على دائرة التشريفات وعلى المدعوين بعدم تسريب أي شيء مما يناقش فيه.

وفي اليوم التالي زاره السفير البريطاني غاضبا وأخبره بتفاصيل الاجتماع، وبكل ما قاله كل واحد من المجتمعين، بدقة، وكأنه كان قد حضره بنفسه. وتساءل الوصي قائلا، إذن ماذا نفعل؟ أهكذا يكون حفظ الأسرار لدى أعلى المستويات؟

ترى ماذا كان سيقول عبدالعزيز القصاب لو امتد به العمر ورأى ما رأينا ونرى، وسمع ما سمعنا ونسمع؟

فالموظف الذي عاقبه رئيس الوزراء، وزير الداخلية، عبدالمحسن السعودن، كان يختلس دنانير معدودة، أما اختلاس اليوم فبالملايين وبأنصاف المليارات وبالمليارات. وليت المختلسين الجدد يحتفظون بمسروقاتهم في وطنهم المسروق، ويستثمرونها في مشاريع تسكت عنهم شعبهم الخانع الصبور، وتعين مئات الآلاف من العاطلين على الهم والغم وفوران الدم.

والجاسوس الذي أغضب الوصي وأثار عجبه واستغرابه فقد كان مجهولا مدسوسا عليه من دولة صديقة أو شقيقة.

أما تجسس اليوم فهو علني. بل هو شرف يباهي به الجاسوس، ويكافأ عليه بوزارة أو بزعامة حزب أو قيادة كتلة نيابية أو ميليشيا، وقد يعيّن وزيرا للداخلية أو الدفاع أو مديرا للمخابرات، ثم يصبح، في أسابيع، من أرباب المقامات العليا، ومن أصحاب المصارف والشركات والقصور والمزارع، ويزوره رئيسُ جمهورية ورئيس وزراء وزعيم تيار (وطني) طلبا للمشورة، وتعزيزا للصداقة والمودة والاحترام.

وزارة الداخلية، اليوم، بقضها وقضيضها، ووزارة الدفاع والمخابرات وقيادات الجيش وكتائب الحشد الشعبي تملكها وتديرها دولة أجنبية، نهارا جهارا. ووزارة المالية والبنك المركزي ووزارت التربية والتعليم العالي والخارجية والنفط والتجارة ومؤسسات الاستثمار والمصارف كلُها تعمل لخدمة كل من هب ودب خارج الحدود، علنا وبلا خوف ولا حياء.

أما النزيه، في يومنا هذا، وفي عراقنا هذا، فإنه الشاذ والمنحرف والغبي الذي لا يعاند التيار، ولا يساير القطيع، فيحق عليه القول وتحل عليه اللعنة ويكون من الخاسرين. وسلموا لي على المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، وعلى رئيسه الشهم الهمام، عادل عبدالمهدي، وعلى أعوانه المجاهدين الكرام.