محاولات تصوير الأزمة الراهنة التي يتخبّط فيها الحكم، وتهدد بفشل العهد برمته، لا يجوز التعاطي معها وكأنها أزمة داخل الطائفة السنّية، كما يحاول بعض أطراف الحكم الإيحاء لجمهوره بذلك.
 

والخطاب المتسرّع لوزير الدفاع بتحميل عاصمة الشمال مسؤولية العملية الإرهابية الفردية، ومخاطبة طرابلس وأهلها وكأن مدينتهم تحوّلت إلى قندهار بين ليلة وضحاها، هو هروب إلى الأمام لجماعة الحكم، الذين ينكرون على الآخرين حقهم في الشراكة الوطنية، وفي الحفاظ على حقوقهم الطبيعية في الدولة.

وثمة فارق كبير بين التعامل بواقعية مع مسببات الأزمة الحالية وتداخلاتها المعقدة، وبين الإصرار على تحميل طرف أساسي، وطائفة رئيسية، مسؤولية التعطيل والعرقلة لمسيرة الدولة، وما وصلت إليه البلاد من تأزم وإفلاس، بسبب سوء الإدارة السياسية الراهنة.

لا بد لفريق الحكم من الاعتراف بأن الإحباط المهيمن على أهل الجماعة والسنة يعود إلى الخلل الحاصل في المعادلة الداخلية، والتي مالت كفتها إلى فريق العهد، على حساب الشريك الوطني الأساسي في التسوية السياسية، التي أنهت الفراغ في سدّة الرئاسة، وأوصلت العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا.

ولم يعد سراً بأن هذا الخلل المتمادي هو نتاج الممارسات الفوقية والاستئثارية التي يتباهى بها «الوزير القوي» جبران باسيل، سواء في جلسات مجلس الوزراء، كما حصل مؤخراً في جلسات مناقشة الموازنة، وفرض على مجلس الوزراء مناقشة الورقة التي قدمها بعد ١٢ جلسة وزارية، وبعدما شارفت المناقشات على نهايتها، أم بالنسبة للتعيينات القضائية والإدارية والديبلوماسية، التي تمّت خلال سنوات العهد الحالي.

وجاء خطاب باسيل قبل أيام من عيد الفطر، حول العمل على استعادة صلاحيات مرحلة نفوذ المارونية السياسية وصلاحياتها التي أخذتها السنّية السياسية بعد اتفاق الطائف، ليؤجج مشاعر التوتر والغضب في الأوساط السنّية، حيث لم يتورّع أحد الحضور عن الرد على هذا الكلام بما يستحق من مواقف وعبارات، لاقت استحسان أهالي البقاع الغربي الذين لبّوا دعوة اللقاء مع رئيس «التيار الوطني»، من دون أن يخطر ببالهم أن الضيف القادم من البترون سيخاطبهم بمثل هذا الكلام الذي اعتبرونه مساً بدورهم الوطني وكرامة مواطنيتهم، التي ضحوا من أجلها بالكثير.

إزاء كل هذه التوترات المتلاحقة، وما رافقها من أجواء استفزازية، وتعليقات مُشينة على وسائل التواصل الاجتماعي، بحق مكوّن أساسي في النسيج الوطني، كان لا بد من طرح التساؤلات المتشعبة حول جدوى التمسّك بأهداب التسوية السياسية، التي أنهكتها التجاوزات، وأساليب الهيمنة على القرار الحكومي، والتي تتم حمايتها على حساب حقوق أهل السنّة والجماعة في الدولة، فضلاً عن الخلل المتفاقم في المعادلة الداخلية.

بعض تلك التساؤلات تناول موقف الرئيس سعد الحريري من استمرار هذا الوضع الشاذ في السلطة، ولماذا التزم الصمت طوال هذه المرحلة الحرجة؟

كلام آخر ذهب أبعد من ذلك، عندما طرح أصحابه جدوى البقاء في رئاسة الحكومة، ولماذا لا يقلب الحريري الطاولة أمام الجميع، طالما أن الشريك الرئيسي في التسوية لم يحافظ على قواعدها وتوازناتها، ولم يأخذ بعين الاعتبار عدم إحراج شريكه الذي دفع الأثمان الغالية من رصيده السياسي والشعبي، لإتمام هذه التسوية واستمرارها، تحت شعار إنقاذ البلد من السقوط في الفراغ والوصول إلى الهاوية الاقتصادية، التي نقف على شفيرها اليوم للأسف.

الحديث عن تأزم الرئيس الحريري ومحاصرته من بعض شركائه في التسوية والحكومة، ليس كلاماً دقيقاً، لأن الأزمة الراهنة تعطّل البلد كله، ولا تلف السراي الحكومي وحده.

كما أن الحديث عن خلافات بين رئيس الحكومة ورؤساء الحكومات السابقين، وفاعليات الطائفة الأخرى، دحضه البيان المُسهب لرؤساء الحكومات، عشية عيد الفطر، والذي أكد على دعم رئيس الحكومة، ورفض محاولات التشاطر بتغيير أحكام دستور الطائف، عبر الممارسة، بعدما فشلت محاولات تغيير مفاعيل بعض بنود الدستور بالضغوط والمناورات.

يُدرك أهل الحل والربط في السلطة أن استقالة رئيس الحكومة في هذه الفترة بالذات، تضع البلاد في مهب الكثير من التداعيات الدراماتيكية، لا يستطيع أحد أن يتكهن بحجم وقائعها، أو توقع ما ستسفر عنه نتائجها، على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الاهتزازات الوطنية والسياسية.

ولكن كل ذلك لا يحول دون أن يأخذ الرئيس الحريري موقفاً حاسماً مما يجري، من خلال موقعه في رئاسة الحكومة، والمطالبة بتصحيح الممارسات الشاذة والاستئثارية، وإعادة التوازن إلى المعادلة الداخلية، إذا كان ثمة نوايا حقيقية لدى أهل الحكم لإخراج البلد من نفق الأزمة الراهنة.