خالد صاغية
رأى بعض نقّاده أنّ الرئيس السابق جورج دبليو بوش راح، بعد 11-9، يتصرّف كقيصر رومانيّ. هناك مثلاً مَن استنتج أنّه استعار العشوائيّة والاعتباط من القيصرين الوثنيين نيرون وكراكلا، ومن القيصرين المسيحيين قسطنطين ويوستينيانوس استلهمَ الحرب المقدّسة.
 
جورج دبليو كان شديد التواضع في قدراته الذهنيّة، وتواضعه ينحطّ إلى أميّة حين يصل الأمر إلى السياسة الخارجيّة. لكنّ جريمة أسامة بن لادن في نيويورك وواشنطن أضرمت النار في انطفائه. هكذا بات ذاك القيصرَ الذي رأيناه في أفغانستان والعراق ثمّ في غوانتانامو. فقبل 11-9 كانت سلطته تبدو مثلومة الشرعيّة، بدليل فوزه بفارق 537 صوتاً فقط في ولاية فلوريدا التي يحكمها أخوه جب بوش! منافسه الديمقراطي ونائب الرئيس السابق، آل غور، تقدّم عليه بما يقرب من نصف مليون صوت. أبلغ من هذا أنّه ما إن انتخب للرئاسة حتّى عاد مؤيّدوه إلى رشدهم وانتبهوا إلى ما ارتكبوه: شعبيّته راحت بسرعة تتهاوى في استقصاءات الرأي العامّ.
لكنْ بعد 11-9 تغيّر كلّ شيء. تكشّف عن ذاك البطل المنقذ من ضلال كونيّ. بسبب حربيه في أفغانستان والعراق، وما رافقهما من تعبئة واستنهاض، بات هذا الشخص الضئيل يُقارَن بنابوليون بونابرت: إنّه ذو رسالة إلى العالم. وبالفعل كانت هديّة بن لادن له منحة دسمة من الذكاء والبطولة. فهو، كما بات يقال، يستأصل الإرهاب وينشر الديمقراطيّة، وهو أيضاً يعيد صياغة العالم على نحو أعدل وأعقل.
والحال أنّ أساطير الخير والشرّ، و«إمّا معنا أو ضدّنا»، انبعثت على يديه إلى الوجود، وإلى الصدارة عادت أفكار بائدة عن التمْدِين وحزمة قيم مانويّة نجدها على نحو مقلوب عند بن لادن نفسه. فالاثنان يكادان يكونان توأمين في وعيهما الأسطوريّ، إلا أنّ كلاً منهما يقول إنّه هو التوأم الخيّر فيما شقيقه التوأم الشرّير.
مع هذا، وبسبب ضربة بن لادن، انتخب الرئيس البسيط لمرّة ثانية على رأس بلد شديد التعقيد.
جورج دبليو بوش نابغة بالقياس إلى دونالد ترمب. لكنْ يُخشى أن يجد الأخير في طهران ما وجده الأوّل في «القاعدة»، أي تلك المادّة التي تُحوّله إلى قائد استثنائي في الذكاء والمعرفة والشجاعة. وهو بالفعل، ووسط مناخ أميركي - إيراني بدا لأيّام من طبيعة حربيّة، أعلن أنّه سوف يطلق حملته لولاية ثانية يتوقّع الكثيرون أن ينجح في إحرازها. لكنْ للتذكير: كان ترمب قد وصل إلى البيت الأبيض بشرعيّة ناقصة على نحو مزدوج. من جهة، تخلّفَ بفارق كبير في أعداد المقترعين عن منافِسَته هيلاري كلينتون، ومن جهة أخرى، طوّقتْ عنقه شبهات عدّة – لم تتبدّد كلّيّاً – حول دور روسي وراء فوزه.
إيران هي التي يسعها أن تحوّله إلى بطل وحكيم في آن معاً، تماماً كما فعلت «القاعدة» مع جورج دبليو. تستطيع أن تفعل ذلك بالضبط لأنّ سياستها شكلٌ دائم من أشكال الحرب والعدوان. هذا ما بدأته منذ الأيّام الأولى لثورتها من خلال نظريّة «تصدير الثورة» التي جعلت ملايين الخائفين يتعلّقون بقاتلٍ كصدّام حسين ويراهنون عليه بوصفه المخلّص ولو من طريق الغزو. النظريّة تلك بلغت ذروتها مع التدخّل الاحتلالي في سوريّا الذي شاركتها إيّاه أذرعها الطائفيّة في لبنان والعراق. واليوم، هناك أخطبوط توسّعي يخيف جواره بقدر ما يحاول تغيير المألوف في المنطقة، لا استجابة لرغبات شعوبها، بل بفعل إرادة تُمليها عليهم طهران. وهذا كلّه قد يظلّله سلاح نووي يوسّع رقعة الخوف من إيران بقدر ما يعمّقها.
تلك الأسباب ليست بالضرورة الأسبابَ نفسها التي تحرّك ترمب. إلا أنّ الحرب التي يثير انحسار فُرصها ارتياحاً مشروعاً، لا يستطيع أي كان أن يضمن استحالتها إلى ما لا نهاية. حرب كهذه قد تحوّل ترمب إلى البطل الذي تصفه الأسطورة بأنّه قاتلُ التنّين. كلّ إخفاقاته، والحال هذه، تتحوّل إلى نجاحات باهرة. نرجسيّته الطفليّة، وموقفه من الأجانب والنساء، وتلويحه بالأسوار، وتهديده للتجارة الدوليّة، وميله الانعزالي، وعداؤه للديمقراطيّة الليبراليّة وللإعلام والقضاء...، تغدو كلّها بنوداً في برنامج مضيء أو نعوتاً لزعامة لا يستحقّها إلا زعماء خالدون.
ومثلما وجد أرييل شارون في حرب دبليو بوش غطاءه لاستئناف حربه على الفلسطينيين، ودمجَها في مواجهة الإرهاب، ستوفّر حرب أميركيّة – إيرانيّة لشارونات كثيرين شتّى الحجج، من «مكافحة الإرهاب» إلى «مقاومة الإمبرياليّة»، ودائماً بدم ودمار كثيرين. وبهمّة الطرفين، تقطع نكبة العالم شوطاً بعيداً آخر فيما تكون سويّة العقل أوّل المنكوبين.
ذاك أنّ التطرّف والعنف والخوف تصنع أبطالاً زائفين قد يكونون من طينة صانعيهم، أو من طينة تشبه طينتهم. وليسوا قلّة أولئك الذين رأوا في ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الشيوعيّة والروسيّة عام 1917 واحداً من أسباب الصعود اللاحق للفاشيّة في أوروبا. وهكذا دواليك...